رحلت مية الجريبي، رحلت المناضلة التونسية، رحلت قائدة من أبرز قادة المقاومة ضد منظومة الاستبداد و الفساد بعد مصارعة مضنية و بطولية مع المرض، بعد حياة حبلى بالإنجازات الإنسانية والسياسية، حياة جمعت بين مرحلة مقاومة الاستبداد كمعارضة عنيدة متشبثة بقيم الحرية و الديمقراطية، صامدة لا تثنيها المصاعب و العراقيل و مرحلة ما بعد ثورة الحرية و الكرامة و انطلاق بناء الجمهورية الثانية.رحلت من ناضلت منذ شبابها و إلى آخر رمق من حياتها في سبيل الديمقراطية و الحرية و المساواة.

رحلت من تعرفت عليها كعنصر قيادي في الحزب الديمقراطي التقدمي ثم كأمينة عامة للحزب الجمهوري و هي أول امرأة تتحمل هذه المسؤولية على رأس حزب تونسي.
ثم تعددت اللقاءات التي جمعتنا بانتظام و المناسبات و التحركات و المواقف التي كنا فيها على نفس الوتيرة، فلمست فيها حب الوطن و صدق الطوية وشجاعة الفكر و التشبث الصارم بالمبادئ و القيم. الرؤية الثاقبة و العزيمة الصلبة و نكران الذات هي أبرز صفات الفقيدة. عسى أن تلهمنا هذه الخصال و تلهم الأجيال الصاعدة التي كانت الفقيدة شديدة الانفتاح عليها و كثيرة الإصغاء لما تثيره من جديد الأفكار. علينا أن نتذكر ما قالته خلال المؤتمر الأخير للحزب الجمهوري في ما يشبه الوصيّة أسرد منها بعض المقتطفات المعبرة:
بخصوص المصالحة في إطار العدالة الانتقالية
” نعم ! تونس في حاجة إلى طي صفحة الماضي، لتشق عباب المستقبل في سكينة و تضامن، لكن شريطة أن يصبح الماضي ماضيا بحق، يقطع نهائيا مع تاريخ أظلم وجب علينا تنشئة الأجيال على نبذه واستئصاله من جذوره”
بخصوص أولويات مهامنا اليوم:
“فلنراجع آليات عملنا و تعاوننا، و لنبني جسور تواصل جديدة مرنة و ناجعة تقطع مع ائتلافات خاوية مبنية على “الضد” أو انصهارات في أجندات لا تعني المواطن و لنسع للقاءات مواطنية تقدمية واسعة، تحترم الخصوصيات الذاتية لمكوناتها و لا تقف عند حدودها،

بخصوص الانتخابات البلدية :
دعت الفقيدة إلى “القيام بمهمة عاجلة للإنجاز قبل فوات الأوان” و لا شك أنها أثبتت قدرتها الاستشرافية عندما دعت إلى المشاركة في الاستحقاق الانتخابي البلدي “عبر قائمات مواطنية واسعة لا لون لها إلا لون الوطن، مدعومة من الأحزاب و الجمعيات و المنظمات الديمقراطية، يعاد الاعتبار من خلالها لكُنه العمل العمومي و العمل الحزبي و السياسي بما هو تنافس من أجل خدمة الصالح العام . فيُفتح بتقدم إنجازها باب المشاركة الواسعة في إدارة الشأن المحلي و الوطني، و يبزغ بنجاحها أمل جديد لتونس الأفضل”

سيذكر التاريخ أن للزعيمة مية الجريبي، إلى جانب نضالها الزاخر، مساهمات جليلة في مجال العمل الجمعياتي و الصحفي و الحقوقي.
و إن أنسى فلن أنسى يوم 22 نوفمبر 2011 عندما ترشحت الفقيدة العزيزة لرئاسة المجلس الوطني التأسيسي مؤكدة الإجماع و الحظوة التي كانت تتمتع بها لدى المعارضة. و قد استجابت يومها و بعد الإعلان عن النتائج إلى دعوتي فألقت كلمة قيمة بوأتها موقع زعامة المعارضة. لقد عشنا يومها في قصر باردو أول تجرية للتنافس النزيه الذي وحسب تعبيرة كثيرا ما كانت تلجأ إليها “لا يفسد للود قضية”. لقد وضعنا مع المناضلة العظيمة اللبنة الأولى للمقام الذي تستحقه المعارضة في البرلمان و الذي سيكرسه دستور الجمهورية الثانية.

أيتها الأخت العزيزة، إن فراقك يعز علينا، فسلام على روحك الزكية و تأكدي أنك لم ترحلي فستبقين بيننا الغائبة الحاضرة و ليكن رحيلك مدخلا لتجنيد الطاقات الفكرية و النضالية بالارتكاز إلى تراثك النضالي العظيم.
تغمدك الله بواسع رحمته و رزق أهلك و ذويك و رفاقك في الحزب الجمهوري و في العائلة الديمقراطية الواسعة و كل أحباء الحرية جميل الصبر و السلوان.
و إنا لله و إنا إليه راجعون

مصطفى بن جعفر