بقلم حامد الماطري، عضو المكتب السياسي.
تردّدت كثيراً وطويلاً قبل ان ابدأ في كتابة هاته السطور، كوني من اهل القطاع والمدّعين بمعرفة أغواره، أدرك الكثير من مواطن الوهن في قطاع البترول، واعلم شيئاً عن شبهات الفساد او مواضع سوء الحوكمة، ولكنني أعلم كذلك حجم المغالطات والتّجنّي الذي تعرّض له هذا القطاع في السنوات الاخيرة.
اعلم ان الكثيرين لن يكملوا قراءة هذا النّصّ، وأنه سيجلب لي شيئاً من السباب والشتائم، وسأتّهم بتبييض الفساد او بالانحياز القطاعيّ، خصوصاً بعد ان لاحظت ان الكثيرين من رفاقي في العمل السياسي قد سارعوا الى التهليل بما حدث معتبرين إياه فتحاً لملفّ “البترول” الذي لطالما اسأل الكثير من الحبر. أدرك تماماً أنه ليس في مصلحتي ان اكتب ما سأكتبه وان أقف بمواجهة السيل الجارف الذي فتحته قرارات رئيس الحكومة صباح الجمعة، وتصريحات ناطقه الرّسمي، ولكن ضميري وشعوري بالمسؤولية تجاه بلادي، وتجاه ما اعتبره عملية تخريب غير مسؤول لقطاع حيوي في البلاد، وظلماً سافراً في حقّ تجربة تونسية رائدة، وما اعتقد أنّها قضية عادلة صادف انني على علم بالكثير من تفاصيلها، كل هذا يحتّم عليّ قطعاً ان أدلي بدلوي في مسألة إقالة كامل طاقم منظومة الطاقة والنّفط، على خلفيّة “شبهات فساد”.
صباح الجمعة، ومع انتشار خبر الإقالة الجماعيّة، توقّفت عقارب السَّاعَة في مختلف شركات قطاع الطّاقة وساد قلق كبير. هاته الإقالات لا تشبه اي اقالة اخرى، فهي انسحبت على جميع الصّفّ الاول لمسؤولي القطاع، وقرنت بشبهات فساد وبتشكيل لجان تحقيق ومراجعة، وهو أمر جلل. المثير للقلق هو ان بين المسؤولين المقالين أشخاص لطالما اعتبرت فوق مستوى الشبهات، لتنطلق التأويلات والتحليلات في انتظار ان يأتي الخبر اليقين من لدن اصحاب القرار.
حتى التعليقات الاولى للمعنيين بالأمر كانت متباعدة وعبّرت عن المفاجأة، وكلٌّ منهم تحدّث عن ملفّ مختلف، يعتقد انه الذي تسبّب في اقالته.
ربّما توقّعنا ان يقع أخيراً رفع الستار عن بعض الملفّات المشبوهة، واستبشرنا خيراً ان يكشف المستور عن ملفّات تورّط اشخاصاً نافذين، في صلب المنظومة الحاكمة، فنحن تعوّدنا ان نصدّق الدّولة ونحترم كلمة مسؤوليها. ولكن مداخلة المتحدّث الرّسمي للحكومة كانت صادمة اذ جاءت برواية تركت الجميع في التّسلّل وقدَّمت قصّة غريبة عجيبة لا تستقيم ولا تستند الى منطق.
لا يحتاج البحث الى أكثر من دقائق معدودة للتأكّد من أن رخصة البحث والاستغلال في “حلق المنزل” سارية المفعول عمليّاً الى حدود موفّى 2029، اي لخمسين سنة بعد إصدارها سنة 1979، هذه اللزمة ليست استثناءً في هذا المجال…
يجدر التوضيح بأنّ الشركة التي استثمرت اكثر من مائة مليون دولار لاقتناء المعدات ووضع البنية التحتية وحفر الآبار، هي شركة مساهمة تمثّل نسبة إسهام 2 من البنوك العمومية (الشركة التونسية للبنك وبنك الإسكان) اكثر من ثلث رأس مالها، كما تلقّت الشركة تمويلات من بنوك دولية بقيمة 28 مليون دولار في 2016، فإذا صحّ أن مصالح الدولة “سهت” عن هاته اللّزمة او تواطأت لأكثر من عشر سنوات، ليكتشفها رئيس حكومتنا الهمام “صدفة” أسابيع قبل ان تبلغ الانتاج، فهل يعقل ان البنوك العمومية، وخاصّة الدوليّة، ستساهم في مشروع مشكوك في أحقّيته أو يستند الى رخصة انقضى اجلها قبل سنوات؟؟؟
على أيّ ذقن أراد ان يضحك أياد الدهماني، ومن ورائه يوسف الشاهد بتبريراته تلك؟ لم يكن أحد يعلم بالمشروع من قبل؟ أنسي هؤلاء أن هذا المشروع ومعه شركة “توبيك” مذكور في المناشير الدّعائية لمؤتمر 2020؟؟
لقد احتوى كلام الدهماني بالمناسبة على كمّ من المغالطات يجعلنا نتساءل عمّا اذا كان الامر متعمّداً، للنفخ في بالون فارغ، أو دالّاً عن جهلٍ كبير بتفاصيل الموضوع وقلّة مهنيّة فاضحة، وكلا الاحتمالين خطير… لزمة حقل المنزل لم تنتج بعد حتّى نتحدّث عن “استغلال” للثروات الطّبيعيّة. حتى اليوم، استنفد هذا المشروع استثمارات كبيرة ولم تنتج اي قطرة بعد. وللأمانة، لا يزال نجاح المشروع غير مضموناً، على اعتبار ان عديد المشاكل لا تزال تعوق إتمام الأشغال وانطلاق الانتاج. طبعاً، الضّجّة التي احاطت بالمشروع بعد تصريحات الدهماني لن تخدم في صالحه.
في الحقيقة، ولتوضيح الصورة للعموم، اكتشف حقل “حلق المنزل” منذ سنة 1979، وهو يحتوي على مخاطرة كبيرة جدّاً، سواء من الجانب التقني او من ناحية المردودية المالية، الشيء الذي جعل الشركة التونسيّة للأنشطة البترولية، شأنها شأن الشركات الفاعلة الكبرى في البلاد لا تؤمن بجدوى هذا الاستثمار وتتجنّب المضيّ فيه…
ان يرفع مستثمر تونسي محدود الامكانيّات -نسبيّاً- هذا التّحدّي ويمضي في تطوير الحقل، فهذا امر يفترض ان يشكر لأجله، وما المدة الطويلة جداً بين تقديم خطة التطوير والوصول الى مشارف الانتاج (7 سنوات) إلّا دليل على صعوبة المشروع وكمّ المشاكل والصّعوبات التي تعرّض لها.
لا اخفي سرّاً اذا قلت انّه، وحتى اشهر قليلة، كان كلّ من يسأل عن مشروع حلق المنزل يجيب بأنّ صاحب المشروع مغامر قليل الخبرة، وان ما أقدم عليه ما هو إلّا عملية انتحارية! في الواقع، هم ليسوا بمخطئين، فحقيقة الامر، وما تغافل الدّهماني عن ذكره، هو ان هذا المشروع لا يزال يواجه تحدّيات كبرى وان الشركة المنفّذة له تعاني من صعوبات كبرى من كلّ الأصناف، فعن اي شبهات فساد يتحدّثون؟ حتى لو سلّمنا بوجود اختلاف قانوني يحيط بالمسألة، وقراءات مختلفة لنصوص متعاقبة منذ أربعين سنة، هل يصحّ أن يقع بسط الأمر بمثل هذا الشّكل؟ أتساءل بحقّ، وأعتقد أنّ الجواب أكثر من بديهي، لو كان مكان هذا المستثمر شركة فرنسيّة أو إيطاليّة أو أمريكيّة، هل كان الشّاهد ليجرأ على مثل هذه الخطوة المتهوّرة وهو يعرف أنّ لهذا المستثمر سفارة تحميه وتدافع عن حقّه؟
صادف أنني اشتغلت سابقاً في هذا المشروع لبضعة اشهر، واشهد امام الله ان اكثر كلمة تسمعها، سواء في المكاتب او في الورشات، هي كلمة “مشروع وطني”، يقولها العمال والموظفون باعتزاز لكونهم مساهمين في أول مشروع نفطي 100٪‏ تونسي فكرة وانجازاً. وصادف ان هؤلاء بقوا لأشهر من دون ان يتلقّوا مرتباتهم، وكان حسّهم بالانتماء لهذا المشروع “الوطني” أكثر ما يدفعهم الى الصَّبر والتّحدّي. بوسعي ان أتصوّر كمّ القهر الذي يحسّ به هذا المستثمر وهو يرى نفسه، ومشروعه، مقحماً بمثل هذا الشكل الفجّ في قضيّة رأي عام من المستوى الأوّل، تحاق به اتّهامات ما انزل الله بها من سلطان، وهو الذي كان قضّى باقي ايام الأسبوع يكافح لاستجلاب بعض التمويلات حتى يصل بمشروعه الى حافّة اليابسة، فأصبح في لحظة حديث السّاحة و”ناهباً” لثروة طبيعية لم ير منها شيئاً بعد.
 
يوسف الشاهد يلعب ورقة جديدة من عمليّاته التواصليّة الكبرى التي عوّدنا بها مع كلّ مرّة يحس بأنّ الخناق يضيق من حوله. اعتقالات ما سمّي بالحرب على الفساد تمخّضت عن لا شيء، وبعد ان صفّق له حتى خصومه اعتقاداً منهم في جدّيته في هذا المسعى، سرعان ما تبيِّن للجميع انها زوبعة في فنجان، وأنها مجرّد مسرحيّة سَيِّئَة الإخراج، وأفرج عن أغلب المعتقلين، واستعادوا أموالهم، بل ها هم اليوم يطالبون الدّولة بتعويضات عمّا لحق بهم. ما سمّي آنذاك بالحرب على الفساد انتهى بازدياد منسوب انعدام ثقة التونسي في دولته التي بانت كطرف في حرب عصابات، بدل ان تكون سلطة حقيقية تدافع عن مصالح البلاد وتنشر العدالة بين المواطنين.
منذ قرابة السّنة، وليواجه موجة الاحتجاجات في الجهات الداخلية والاحياء الشعبية، خرج علينا يوسف من جديد ليوجّه تهماً مباشرة وجزافيّة لحمّة الهمامي كمحرّض على الفوضى والعنف. قبل أشهر قليلة، خرج علينا مرّة أخرى ليجعل من خلافه مع حافظ قايد السبسي (لا خير في اي منهما) قضية وطنية، وليلعب من جديد دور الضحية ليحرج اللاعبين السياسيين ويكسب المزيد من الوقت.
هذا تقريباً ملخّص فترة حكم يوسف الشاهد، مسلسل من العمليّات التّواصليّة المفبركة والمكلفة، وفترة انتظار وتأجيل متواصل لتغييره هو وحكومته.
عندما ندرك ان ايام يوسف الشاهد في القصبة كانت معدودة، وان وزير الطاقة المقال، القريب من الاتحاد والمحسوب على الباجي قايد السبسي والمشهود له بالكفاءة -وعلى ما اعلم- بنظافة اليد، كان هو المرشّح الرئيسي لخلافته، نبدأ في فهم أُطر اللعبة. كذلك قد يكون في جعبة رئيس الحكومة فعلاً ملفات مشبوهة اخرى، يستعملها كورقة ضغط ضد خصومه في النداء المتورّطين في قطاع النفط، وهم كثر. طبعاً، هو لن يفصح أبدا عن هاته الملفّات، وربما هو اختار اقحام حكاية حلق المنزل جزافاً لتحويل الأنظار عن قضايا اخرى أخطر وأعقد.
ألهذه الدرجة هانت الادارة التونسية، وهانت الكفاءات التونسية، والمشاريع التونسية، ومعها المصالح الوطنية، لتصبح مجرّد ورقات يلعب بها، فيلقى بها او تحرق، في لعبة الصراع النّدائي المحموم؟!
سيثبت الوقت ان ما يحدث هاته الايّام هو أيضاً مسرحيّة واستعراض إعلامي جديد أراد منه رئيس الحكومة احياء “أسطورة” الحرب على الفساد باستهداف قطاع هو أصلاً محلّ شكوك متأصّلة. وهو بصدد اضفاء المزيد من الدراما في المشهد بإلقاء تصريحات عصماء، هلاميّة ومستعجلة من نوع “انا ما نخاف كان من ربّي”، للإيحاء بالشجاعة وانه بصدد مواجهة الاهوال نيابةً عنّا.
طبعاً لن يقدر أحد على زعزعة الشاهد الآن -إلى حين- بعد ان سوّق نفسه بطلاً في محاربة “مافيا البترول“. اعترف له بأنّه ضرب عصافير عديدة بضربة واحدة، ولو على المدى القصير، وسجّل اهدافاً في مرمى خصوم سياسيين عدّة. ولكنّه سجّل أيضاً افتتاح مستوى جديد في دناءة العمل السياسي، مستوى لا نتوانى فيه عن توزيع التهم جزافاً، افتعال الأزمات من دون اي مبالاة بالخسائر او التبعات، وتخريبٍ لا مسؤول، بل إجرامي، للإدارة وللاقتصاد الوطنيين عبر استعمالها كأدوات طائشة في صراع حزبي سخيف.
عندما أدرك ما حدث مع الرئيس المدير العام للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية وهو رجل لا يشك في نزاهته أحد، اتساءل إذا مازال هناك اي كفاءة اخرى من هذا القطاع، او من غيره، سترضى بعد اليوم ان تتولّى اي مسؤولية وهي تدرك انها، وبغض النظر عن ادائها او كفاءتها او نظافة يدها، لن تكون أكثر من منديل ورقي قد يستعمله السياسيون لمسح اي قذارة تعترض طريقهم ومن ثمّ يلقون بها في سلة المهملات من دون ان يرمش لهم جفن! هل هو إمعان في الغباء، أم هي سياسة ممنهجة لإفراغ الدّولة والبرلمان، والحكومة، من الكفاءات، وجعلها مرتعاً للفاسدين والوصوليّين؟
لم أكن يوماً من المدافعين عن الوزراء أو المسؤولين القطاعيين، لا سيّما في قطاع النفط الذي اشتغل فيه، ولكن ذات المسؤولية التي دفعتني سابقاً الى المناداة بالشفافية وفضح الممارسات شاذّة التي تضرب المصالح الوطنيّة، هي نفسها تدفعني اليوم للوقوف والقول بصوت عالٍ ان ما يتعرّض له قطاع النفط اليوم هو مظلمة، وسيكون لها تبعات كارثيّة على قطاع حيوي، يعاني أصلاً من مشاكل كثيرة وكبيرة.
منذ 2016، انطلقت عمليّة إعادة هيكلة لقطاع الطاقة في تونس، اصلاح أخطاء سابقة، ودفع الشّفافيّة وتغيير العقليّات والممارسات. وللأسف، لا يمكنني ان أسلّم بأن هذه الحركة اللّا مسؤولة التي أقدم عليها رئيس الحكومة ستخرّب عمليّاً مجهود سنوات لإعادة تدوير عجلة الاستكشاف واستجلاب الاستثمارات الأجنبية في حقول النفط والغاز، ستضرب مصداقية الدولة التونسية عند شركائها الأجانب بشكل مدمّر يمكن معه التّسليم بانتفاء أيّ استثمار جدّي لفترة معتبرة. كما أنّها ستجهض مشروعاً متميّزاً انطلق مؤخّراً للانتقال الطّاقي نحو الطاقات المتجددة، وستذهب ادراج الرياح كلّ المساعي التي جهد فيها الكثيرون على امتداد سنوات لإصلاح صورة قطاع النفط عند المواطن التونسي. نحن نعيش تحت صدمة حقيقية منذ صباح الجمعة، ويصعب علينا أن نقيس حجم الكارثة أو تبعات هذه ”اللّعبة“.
لك الله يا تونس… لطالما قلت عنهم انهم مجرمون، وان وصولهم الى الحكم هو أكبر مصيبة في التاريخ التونسي الحديث، ولكن أبعاد ما يحدث هاته الايّام فاق أسوأ التوقّعات وأكثر كوابيسي قتامة.