بقلم حامد الماطري
من يتابع سباق الرّئاسة الأمريكية، و يستمع إلى ما يطرحه المرشح الديمقراطي “بيرني ساندرس” من خطاب جديد على الساحة السّياسية هناك، ينادي بالعدالة الاجتماعيّة، و المساواة، و أحقّيّة الفقراء في الوصول إلى العناية الصّحّيّة و دخول الجامعات… من يسمعه يتحدّث عن وجوب تحقيق “ثورة سياسية”، يدرك أنّه –و بالرّغم من الانتكاسات التي عرفتها ثورات الرّبيع العربيّ- لاتزال الرّوح التي أطلقتها الثورة التونسية ، حيّة و يافعة، يجوب صداها أرجاء العالم، رافعة لنفس الشعارات و الأهداف: العدل في اقتسام الثروات، و التّمرّد على نظم سياسية انقلبت من مستأمنة على حقوق الشّعب، إلى منظومات فاسدة تجنّدت لخدمة اللوبيات و أصحاب النفوذ. حتّى في امريكا، معقل الرأسماليّة و القوّة الاقتصاديّة العظمى، لم يعد “الفتات” الذي يرميه أصحاب الثّروات كافياً لسدّ رمق الطّبقات السّفلى والمتوسطة، أو لكفالة حدّ أدنى من الخدمات أو فرص الصّعود الاجتماعي، فباتت الكرامة والعدالة الاجتماعية مطلباً شعبيّاً معلناً.
نعم، قد لا يختلف اثنان اليوم أنّ موجة الثّورات العربيّة قد انتكست، و أفضت إلى حروب أهليّة طاحنة، أو إلى إعادة تموقع للمنظومة الفاسدة القديمة، تحت مسمّيات مختلفة و عناوين جديدة. و لكن هذا لا يعني أبداً انطفاء الشّرارة التي كانت وراء تفجّر الأوضاع في مواضع و مناسبات عديدة. الشيء الذي انكسر حقّاً في السّاحات العربيّة عموماً، و الحالة التّونسيّة خاصّة، هو انهزام القوى السّياسيّة التي كانت تقدّم نفسها كبدائل للمنظومات الرّجعيّة الفاسدة، بينما لا تزال حالة الإحتقان الشّعبي و الأزمة الاجتماعية على حالها في هذه الدّول، متجاهلةً كلّ تقلّبات السّياسة، و منبئة بخطر إعادة تفجّر الأوضاع في المستقبل القريب، و بشكل أعنف.
في تونس، كان العنوان الأبرز لانتخابات أكتوبر 2014، هو السّقوط المدوّي للأحزاب ذات المرجعيّة الدّيمقرطيّة الاجتماعيّة المدافعة فعليا على العدالة الاجتماعية، أمام انتصار غريب بقدر ما هو ساحق لأحزاب يمينيّة وليبرالية، هي أساساً كيانات سياسيّة لا تمتّ بصلة لمطالب ثورة 2011، من اصلاح سياسي و اقتصادي و عدالة اجتماعية و قطع مع الفساد. لم تكن هذه النّتائج انتكاسةً لفكرة الثّورة أو لشعاراتها كما يعتقد البعض، خصوصاً أنّ الرّقم الأهمّ في تلك الانتخابات كان العزوف الكبير عن المشاركة، خاصّة بين الشّباب، أي الشّريحة الأساسيّة التي صنعت الثّورة، و التي تحمل روحها و تطلّعاتها. هي إذاً رسالة مضمونة الوصول بخلوّ المشهد السّياسيّ من أيّ فصيل أو طرف “مقنع”، تتفق عليه القاعدة الشعبية الواسعة، يجسّد أهداف الثّورة و يستحقّ أن يؤتمن عليها. تتأكّد هذه الحقيقة مع كلّ سبر للآراء تكون فيه النّسبة الكبرى لأولئك الذين يصرّحون بأنّهم لن يصوّتوا في الانتخابات المقبلة، أو أنّهم لا يعرفون بعد لمن سيصوّتوا، في اشارة إلى أنّ السّاحة السّياسيّة لا تزال تعاني من فراغ كبير فشل جميع اللاعبين السّياسيّين في ملئه. حتّى الجبهة الشّعبيّة، و التي يستسيغ الإئتلاف الحاكم تقديمها كالمكوّن الأساسيّ للمعارضة، هي في النّهاية لا تزن الكثير، أو على الأقلّ لا تمثّل الثّقل الذي تدّعيه إذ لم يتعدّى عدد ناخبيها في 2014 (124 ألف) مجموع ما تحصّلت عليه الأحزاب المكوّنة لها في انتخابات 2011 تقريباً بكثير (110 آلاف). نظام الاقتراع بأكبر البقايا قد يكون خادعاً من حيث ما يوحي به من نتائج، خصوصاً أنّه يلعب في صالح الأحزاب التي تتقدّم في قائمات موحّدة. أي أنّه، و بالأرقام، كانت الأحزاب التي انشقّت من المؤتمر (باحتساب التّيّار و وفاء) لتحقّق نتيجة أفضل (160 ألف) مما حقّقته الجبهة لو أنّها دخلت الانتخابات في قوائم موحّدة، و ذلك بالرّغم من عمليّة “السّلخ” الذي تعرّض لها هذا الحزب فترة الترويكا. إذاً، تبقى الجبهة –في رأيي، و بالأرقام- شأنها شأن أغلب أحزاب أقصى اليسار في المنطقة، ظاهرة صوتيّة و إعلاميّة، و أحزاباً من الصّفّ الثّاني. وجودها شيء مهمّ لتنوّع المشهد السّياسيّ، و لكنّها تبقى غير قادرة على الصّبوّ إلى دور أكثر فاعليّة في الحكم. فيما يبقى مكان الحزب الحامل لتطلّعات الشّعب الذي ثار على المنظومة السّابقة و فسادها، محلّاً شاغراً، يصطفّ أمامه كثيرون و يتنازعون عليه، و لكنّهم لا يقنعون. من جهة أخرى، و علاوة على تلك الهالة و الرّغبة الصّريحة في الإبهار التي صاحبت مؤتمر النّهضة، تبقى الحركة، بتنظيمها و قاعدتها الانتخابيّة المضمونة و انضباط قياداتها، الحزب الوحيد الحقيقيّ في البلاد. و هو يستمدّ قوّته أساساً من ضعف خصومه، بل من خلوّ السّاحة من أيّ منافس حقيقيّ له. ليس من باب التّميّز، و لكن لإصرار باقي الأحزاب على اعتماد طرق عمل هاوية في مجال يتطلّب أقصى مدى ممكن من الثّبات و الحرفيّة. أمّا نداء تونس، فهو تماماً كما قلنا منذ البداية، شأنه شأن ما سيتمخّض من رحمه من أحزاب (المشروع أو العائلة الدّستوريّة أو غير ذلك من أشلاء النّداء)، مشاريع ولدت ميّتة، لأنّها لا تعدو أن تكون في نهاية الأمر أكثر من مجرّد “ائتلاف مصالح ظرفيّ”، لا يحمل عقيدة حقيقيّة، أو مشروعاً ملموساً، و هو ما يجعلها كيانات تتفكّك تدريجيّاً مع كلّ حفلة تقام لتوزيع المناصب و الغنائم.
تفيد الأرقام الرّسميّة بوجود أكثر من مائتي حزب، أغلبها أجسام مجهريّة و أحاديّة الخليّة. و هذا الرّقم في حدّ ذاته هو صورة معبّرة عن مدى الفراغ الذي تعاني منه السّاحة السّياسيّة في تونس، فراغ يدركه المواطن أكثر من أهل السّياسة، و يتبلور في حالة الاحباط لدى العموم، ومدى يأسهم من العمليّة السّياسيّة و عزوفهم عن الشّأن العامّ، و عن العمل و الانتماء الحزبيّين، بعد أن عرفا زخماً تاريخيّاَ في السّنة الأولى للثّورة. تحت تأثير الإعلام و سلوكيّات بعض من المتسلّقين بعالم السّياسة، أضحى الرّأي العام ينظر الى أهل السّياسة كمجموعة من الانتهازيين أو الفاسدين، بل أنّه لم يعد ينتظر شيئاً من الأحزاب أو الزّعامات و فقد الثّقة فيهم و في أيّ اصلاح قد يقدمون عليه. مقابل ذلك، لا يزال الغليان الاجتماعي يتّقد في الجهات و الأحياء الفقيرة، و الطّبقات الوسطى، خصوصاً مع تردّي الوضع الاقتصادي و بلوغ البلاد حالة من الوهن الحقيقي، و تضرّر أهمّ القطاعات النّشطة في تونس من سياحة و صناعات تحويليّة و كيميائية و نفط، الى جانب تعطّل أغلب الاصلاحات الاقتصاديّة الكبرى –من محاسبة أو اصلاح جبائي أو اداري أو توازن جهوي- تحت ضغط الأوليغارشيا التي أصبحت تدافع عن مصالحها مباشرة من داخل أروقة مجلس نوّاب الشعب.
اذاً فالأزمة الحقيقية اليوم ليست أزمة زعامات أو صراعات وهميّة حول الهويّة، أو أيّ من التّرّهات التي أفسدت الانتخابات السّابقة، بل هي أصلاً في غياب البدائل السّياسيّة الفعليّة، و القادرة على أن يؤمن بها المواطن التّونسي و يضع فيها ثقته. من دون هذا البديل ستحلّ فوضى اليأس و الفراغ، و ما الارهاب، و ما انفلات الاحتجاجات الاجتماعيّة و ضعف مفهوم الدّولة إلّا تمظهر لهذا الفراغ. لقد أثبتت تجربة التّرويكا أن النّهضة –و بالرّغم من قوّتها- لا تستطيع لوحدها ملأ المشهد السّياسي، و أن تواجدها كقوّة وحيدة و مطلقة لهو أمر خطر عليها أكثر مما هو في مصلحتها. كذلك هو خطر على تونس، و على العمليّة السّياسيّة برمّتها. عنصر التّوازن الذي لا زالت تبحث عنه و تنتظره السّاحة السّياسية التونسيّة هو قطعاً ما يسمّى بالكتلة الاجتماعيّة الدّيمقراطيّة، و الذي ما فتئت أحزاب عديدة تحاول أن تدّعي الانتماء لعائلة “يسار الوسط”، و أن تلبس ثوبها و تقتبس خطابها عساها تظفر بهذا الموقع الاستراتيجي (النداء، المشروع…). لم تكن لهذه المحاولات أن تكون لو لم تكن هذه العائلة الاجتماعية الديمقراطية تعاني من انقسام مزمن و زعامات متنافسة، الشيء الذي ذهب بالتاريخ النضاليّ و أضرّ بالقيمة الرّمزيّة لأحزاب مثل الديمقراطي التقدمي، أو التحالف، او التكتل او التّيّار و الحراك، فكلّ هذه الأحزاب تقدّم للنذاخب نفس الخطاب و نفس العرض، و هي بذلك تضعف بعضها البعض باستمرار. في الواقع، لو أخذنا الكتلة المكوّنة من تنسيقيّة الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة (التيار – الجمهوري – التكتل – التحالف – حركة الشعب)، لتكوّن لدينا بلا شكّ حزب من الصّفّ الأوّل (بالرّغم من حمّى “التصويت المفيد”، تحصّل هؤلاء مجتمعين على قرابة 250 ألف صوت في 2014، أي بقدر الوطني الحرّ و الجبهة مجتمعين). و إن كنّا نعلم أن في مثل هذه الحالة “واحد زائد واحد يساوي ثلاثة”. أي أنهم بتجمّعهم يصبحون أقدر على اجتذاب النّاخبين و تقديم مشروع أكثر قبولاً و مصداقيّة، و لا نبالغ اذا قلنا أنّهم سيجدون أنفسهم مباشرة في المركز الأوّل أو الثاني في أيّ انتخابات مقبلة.
بات جليّاً اليوم أن الخطأ الأكبر الذي اقترفته الأحزاب الاجتماعيّة الديمقراطية زمن الترويكا، كان في انقسامها كأقطاب متنافسة (في الحكم أو في المعارضة)، لا ككتلة واحدة صريحة، تكون ندّاً للنّهضة في الحكم، و قادرة على فرض التّوازن معها. فشل تلك الأحزاب في التّنسيق بين بعضها البعض، و انخراطها في “قتال أخويّ” ضرب مصداقيّتها جميعاً، و سمح لقوى الرّدّة بالرّكوب على هذا الصّراع و بتبرير عودتها إلى السّاحة بمثل تلك السّرعة. اللأسف، عوده أن نتعلم من أخطأنا، نحن نصر على أعادة اجترارها. سياسيّاً، و إلى جانب التاريخ النضالي المشترك، تحمل هذه الكتلة قيماً مشتركة و مشروعاً مجتمعيّاً متماثلاً في أغلب أبعاده، و هي بذلك أكثر تجانساً بين بعضها البعض من مكوّنات نداء تونس قبل الانتخابات مثلاً. لكن ما ينقصها –بل و يضربها في الصّميم- هي حمّى التّنافس في الزّعامات التي تنتقل أحياناً من قادة الصّفّ الأوّل لتمرّ الى القيادات المتوسّطة و الصغرى. كذلك ينقصها الانضباط الحزبي، ممّا يجعلها عرضة للانقسام و الانفجار مع كلّ قرار أو اختلاف في وجهات النّظر.
إذاً، و بالاضافة الى كونه يترك الباب مفتوحاً أمام الانتهازيين و المتسلّقين، يبقى تشتّت العائلة الاجتماعية الديمقراطية وبالاً كبيرا، ليس عليها هي فحسب، و لكن على عموم العمليّة السياسية في تونس، اذ أنّه مصدر اختلال متواصل و أحد المسبّبات الأساسيّة في حالة الفشل السّياسي، و المتمثل في الصورة البائسة التي ينظر بها التونسي الى السياسة و السياسيين.
ربّما تحمل بعض محاولات التقارب و كالوحدة التي تختمر هذه الأيّام -و تشهد مخاضاً عسيراً- بين حزبي التّكتّل و التّحالف، الى جانب عدد من الشخصيات الوطنية المستقلّة، أملاً في انشاء ديناميكيّة مختلفة، قوامها العمل المشترك و تبجيل المصلحة العامة، لتونس، و للتيار الاجتماعي الديمقراطي التّقدّمي. و ان كنّا نأمل صدقاً في نجاح هذه المساعي، فإنّنا نشدّد على أهمّية هذا التّمشّي و وجوب نجاحه، و التّحرّر من العصبيّات الضّحلة، حتى يصبح قاطرةً تضمّ كل من يؤمن بالخطّ الاجتماعي الدّيمقراطي.
لا بدّ لهذا التّيّار أن يعود من جديد رقماً في السّاحة السّياسيّة التونسية، قادراً على تصويب دفّة العمليّة السّياسيّة نحو أهداف الثّورة في الاصلاح الاقتصادي و الاجتماعي، الحوكمة الرشيدة والحفاظ على المال العام، الابتعاد على المال السياسي، ثم الواقعية والابتعاد على الصراعات المفتعلة والواهية، فيستعيد بذلك شعبيّته و ثقة النّاس فيه، و في عموم التّجربة السّياسيّة. كذلك لا بدّ أن تنخرط أحزاب التّيّار و الجمهوري و الحراك في هذا المسار “الوجوديّ” في أقرب وقت ممكن، فليس اللمشروع من معنى إذا لم يكن فعلاً جامعاً و موحداً لكل الجهود.
لا شك في إلتقاء النوايا الحسنة، ولكن يجب المرور باسرع وقت ممكن إلى رأب الخلافات العالقة، و تجسيد هذه النوايا في مشروع واقع ملموس، حتّى تتحقّق غاية جمع شتات العائلة الاجتماعية الديمقراطية في حزب واحد كبير و فاعل، و التي هي اليوم قد أصبحت بحكم تحوّلات الخارطة السّياسيّة في تونس ضرورة ملحّة و مستعجلة لإنقاذ العمليّة الدّيمقراطية الوليدة من مطبّات خطيرة و ملحة تنتصب أمامها.