ينعقد هذا المؤتمر الأوّل لحزبنا، حزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات تحت شعار “من أجل مجتمع المواطنة ” ولقد أردنا بذلك أن يكون هذا الشعار عنوانا على المسيرة النضالية لحزبنا وتحديه لشتّى الصعوبات التي ما فتئت تواجهه منذ الإعلان عن تأسيسه في 9 أفريل 1994، وعنوانا على الدّور الذي رسمه لنفسه في أن يكون مُسْهمًا فاعلا في بناء تونس الحريّات والديمقراطيّة والحداثة، والتي يعيش فوق أديمها مواطنون لا رعايا، يعملون بصفتهم تلك، في نخوة واعتزاز، على أطراد تقدّمها وضمان مناعتها واستقرارها، بما يوّفرونه لها من حيوية سياسيّة وعدالة اجتماعيّة وطمأنينة في القلوب ومساواة بين رجالها ونسائها وطموح يحدو الجميع نحو الأفضل.


وإنّ هذا الشعار ليكتسي أهميّة مخصوصة في هذه السنة حيث ستعرف البلاد في موفّاها انتخابات رئاسية وتشريعيّة من المطلوب ألاّ تكون مثل سابقاتها، لا لون لها ولا طعم وأن تخرج عن إطار مجرّد الموعد الانتخابي الشكليّ، وأن تهيئ الأشهر القليلة الفاصلة عن إجرائها إلى أن تمثّل هذه الانتخابات منعرجا يُمكن أن يحييَ جذوة الأمل ويخرج المجتمع التونسي من أجواء الإحباط السياسي الخانق الذي يستبّد به منذ عقود طويلة.
ولئن كان هذا الأمل الذي يحدونا نسْبيًا جدّا نظرا لما نلاحظ من تكلّس في العقلّيات يبدو واضحا في ممارسات السلطة والحزب الحاكم على أرض الواقع، فإنّ هذا لا يمنعنا من التأكيد على أنّ انتخابات 2009 ستمثل امتحانا حقيقيّا وحاسما لإرادة السلطة في تحقيق الديمقراطية، بعد كلّ المناسبات الانتخابيّة المهدورة التي عرفتها بلادنا منذ الإعلان عن الجمهورية سنة 1957 إلى الآن، والتي فقدت معها العملية الانتخابيّة عندنا كلّ مصداقيّة.
I)    المشهد السياسيّ بين عهدين: الحزب المهيمن والتعدّديّة الصوريّة
لقد استطاعت تونس بفضل ما تزخر به من طاقات وبفضل ما تتمتّع به شخصيّة شعبنا من تأصّل في حضارته العربية والإسلامية وقدرة التفتّح على حضارات الشعوب الأخرى أن تنحَت لنفسها عبر العصور موقعا متميّزا في تاريخ البشريّة، لم يزده الفكر الإصلاحيّ التنويري الذي صدع به رجالاتها في القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين إلاّ تجذّرا ووعْيا بمتطلبات التقدّم والحداثة. ولم تزده تضحيات الحركة الوطنيّة بمختلف حساسيّاتها، إلاّ شحذا للعزائم في سبيل التحرّر وبناء الدولة وإرساء المجتمع العادل وتحقيق الكرامة للجميع.
ولئن حقّق شعبنا مكاسب هامّة، خاصة في مجالات التعليم والصحّة وتحرير المرأة وتحسّن مستوى العيش عامّة، فإنّه لمن المفارقات الغريبة في التاريخ السياسي الحديث أن نلاحظ أنّ السلطة قد اتخذت منذ الاستقلال من وِصاية الدولة على الشعب أسلوبا للحكم ومن حزب مهيمن – تتعاقب تسمياته ويبقى جوهره واحدا – وسيلة لفرض تلك الوصاية. وهكذا نُسِجت ثنائيّة الحزب والدولة: الدّولة في خدمة الحزب والحزب في خدمة قياداته. وحتى تسْتمّر الوصاية كانت السلطة وما فتئت تعمل على احتواء المنظمات السياسيّة والنقابيّة والاجتماعية لتوظيفها في خدمتها، وعلى تهميش أو إسكات كلّ صوت مُخالف، فحينا تحت شعار الحفاظ على ” الوحدة الوطنيّة الصمّاء ” و ” تعبئة الجهود من أجل بناء الدولة ” وحينا تحت شعار ” مواجهة الإرهاب والتطرّف الدينيّ، وتارة بالإقدام على تزييفِ إرادة الشعب في الانتخابات،  وطورا بتنظيم المحاكمات السياسيّة وممارسة شتّى أساليب القمع.
ولقد كان من المأمول، بل ومن المفروض، وقد صارت تونس تزخر بالكفاءات رجالا ونساء وفي كلّ المجالات، بعد ثلاثة عقود من الاستقلال، وخاصّة بفضل انتشار التعليم وجودته في تلك المرحلة، وبفضل ما اكتسبهُ التونسيّون من وعي ونضج، أن تدخل تونس عن جدارة في مرحلة جديدة بعد التغيير الذي وقع في أعلى هرم السلطة يوم 7 نوفمبر 1987، خاصة وأنّ البيان الذي أعلن عن هذا التغيير قد جاء مُجمّعًا لمطالب الحركة الديمقراطيّة، واعدا بإنجازها، ومن أجل ذلك ساندته وآزرته إلى أن جاءت انتخابات سنة 1989 الرئاسيّة والتشريعيّة والتي كانت مخيبّة لكلّ الآمال في ظروفها ومُجرياتها ونتائجها، فمثّلت النكسة الأولى للديمقراطيّة ولروح التغيير في تونس.
ولئن ظلّ الخطاب الرسميّ مركّزا بصفة خاصّة على أنّه لا رجعة في تأسيس دولة القانون والمؤسسات وتثبيت دعائمها وعلى احترام مبادئ حقوق الإنسان وتكريس قيَم الحريّة والمساواة والعدالة، وعلى أنّ خيار التعدّديّة لا رجعة فيه وعلى أن لا مجال للظلم والتجاوزات ولا مجال لاستغلال النفوذ، وعلى أنّ الأحزاب السياسيّة في الحكم وفي المعارضة هي أطراف المعادلة الديمقراطيّة والتنافس النزيه… فإنّ الممارسات الفعليّة على أرض الواقع لا تذهب بتاتا في نفس الاتجاه حيث تفاقمت هيمنة الحزب الحاكم على كلّ دواليب الحياة العامّة، وتزايد تغييب مكوّنات المجتمع المدني ومحاصرتها وتهميشها وإقصائها، وتقلّصت فضاءات الحوار، وأُقْصِيَت الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات الوطنيّة غير الموالية من وسائل الإعلام الوطنيّة المسموعة والمرئية، واشتّد الطوق على كلّ إعلام مستقلّ حرّ ونزيه، فحينا برفض الترخيص، وحينا آخر بإثارة القضايا العدليّة المفتعلة، وطورا بتسليط الضغوط على مستوى التوزيع، وطورا آخر بتسليط شتى أنواع الهرسلة والمضايقات وحتّى التعنيف على الصحافيين الأحرار أثناء أدائهم لعملهم؛ وفي كلّ الأحوال، تبقى صحافة الأحزاب غير المواليّة محرومة من الدعم والإشهار العموميّين.
وفي الوقت الذي تعمل فيه الأحزاب الديمقراطيّة والمنظمات والجمعيات الحقوقيّة والإنسانية المستقلّة من أجل فكّ الحصار عليها وتوسيع فضاء الحريّات وحق المواطن في التعبير والتنظّم ووضع حدّ لشتّى أنواع الهيمنة والتعسّف، تذهب بعض القيادات الحزبيّة والمهنيّة في الاتجاه المعاكس حيث تساهم في مزيد تدهور الأوضاع السياسيّة وانحسار فضاء الحرّيات ومزيد انغلاق السلطة على المطالب الديمقراطيّة الأساسيّة، فقد جعلت هذه الأطراف من الانتهازية والتنظير لها خطّا سياسيّا تبرّر به تخلّيها عن أدوارها الطبيعيّة، فتارة تتستّر بشعار ” المساندة النقديّة ” التي سرعان ما يذوب فيها النقد وتطغى المساندة، وطورا بشعار ” الديمقراطيّة  الوفاقيّة ” التي لم توفّق إلاّ في خدمة الطرف الماسك بالسلطة، في حين تهمّشت المبادئ الديمقراطية الحقيقيّة، وحينا تحت غطاء
” الواقعيّة السياسيّة واعتبارا لاختلال موازين القوى ” وحينا آخر بحجّة أولويّة ” التصدّي للخطر الأصولي وإفشال مخططاته ” . إنّ الخدمات ” الجليلة ” التي قدّمتها هذه الأطراف إلى السلطة عندما تخلّت عن وظيفتها الأساسيّة كسلطة مضادة وسكتت عن التشهير بالانتهاك المتواصل للحريّات لم تؤدّ إلاّ إلى ” نجاح ” النظام في مسعاه من أجل إرساء تعدّدية شكليّة باهتة في البلاد، تضفي عليه شرعيّة منشودة ولا تغيّر في جوهر المسألة الديمقراطيّة شيئا، ولقد جاءت المحطّات الانتخابيّة المتعاقبة لتُرسيَ هذا الديكور التعدّدي الذي أرادته السلطة والذي يلّمع صورتها وخاصّة في الخارج، ولا يكلّفها ثمنا باهظا…
II)    من أجل مجتمع المواطنة:
إنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات الذي أسّسته قوى من حساسيّات سياسية مختلفة تنتمي في الأصل إلى اليسار الإصلاحي واليسار الراديكالي والحركة النقابيّة والحركة الحقوقية ليؤمن إيمانا عميقا بأنّ التنوّع ثراء للمجتمع وللتنظيمات وبأنّ الحقّ في الاختلاف هو سمة المجتمعات المتطوّرة، وهو مقتنع بأنّ تونس، بفضل ما يتّصف به شعبها من تجانس اجتماعيّ وثقافيّ وعرقيّ، وما وصله من تطوّر ووعي ونضج. يتمتّع بمقوّمات أساسية تمكنه من جعل الحوار الديمقراطي أسلوبا للتحكّم في الاختلافات وأساسا قويما لبناء مجتمع المواطنة وترسيخه.
وإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات قد اختار يوم 9 أفريل 1994 تاريخا للإعلان عن تأسيسه وفاء لتضحيات أبناء تونس الأحرار ورمزا للنضال من أجل إرساء مؤسسات جمهوريّة عتيدة وفي مقدّمتها برلمان يعكس بحقّ إرادة الشعب، وإيمانا منه  بأنّ أي تنمية اقتصادية واجتماعية لا يمكن أن تصير مستديمة في ظلّ نظام سياسي يعامل المواطن معاملة القاصر، ويجعل من نفسه وصيّا على الشعب ويدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، متعاليا عن أيّ شكل من أشكال النقد.
إنّ المدخل الرئيسي لإرساء الديمقراطية الحقيقيّة وبناء مجتمع المواطنة هو احترام الحرّيّات الأساسيّة وتركيز الآليات التي تسمح بإقامة الحوار الوطني في صلب المجتمع وتضمن دوامه وتتيح ظروف إثرائه. وإنّ هذه الآليات لا تنغرس في صلب المجتمع إلاّ بقيام مؤسسات جمهوريّة حقيقيّة وفاعلة وبإتاحة الظروف الضّرورية لإضلاع المعارضة الوطنيّة ومكوّنات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بالدور المنوط بكلّ طرف منها في ظلّ مجتمع المواطنة المنشود.
1)    من أجل نظام جمهوريّ ديمقراطيّ:
بعد مرور اثنتين وخمسين سنة على إعلان الجمهورية سنة 1957 يكاد ذلك الحدث يُختصر على أرض الواقع والممارسة اليوميّة  في مجرّد القضاء على الحكم الملكي، ذلك أنّ النظام الذي قام منذ إعلان الاستقلال وكرّسه دستور 1959 قد حرم الشعب من مقوّمات النظام الجمهوري المتمثلة أساسا في التداول السلمي الديمقراطي على الحكم والفصل بين السلطات وصوْن الحريّات واحترام إرادة الشعب. لقد تمّ نسف الضوابط الدستوريّة المحدّدة لعدد الولايات الرئاسيّة، بتحوير الدستور مرّة
أولى سنة 1974 بإلغاء عدد الولايات ووضع تونس تحت نظام الرئاسة مدى الحياة، ومرّة ثانية سنة 2002 بنظام شديد الشبه بالأوّل رغم العهود المقطوعة التي عبّر عنها بيان 7 نوفمبر 1987. إنّ النظام الرئاسوّي الذي فرضه دستور 1959 على الشعب وما أدّى إليه من تضخّم سلطات رئيس الدولة قد قلّص إلى أبعد الحدود دور السلطتين التشريعيّة والقضائية وصلاحياتهما وأخضعهما إلى سيطرة السلطة التنفيذيّة، وجعل في نفس الوقت رئيس الدولة غير مسؤول عن أفعاله أمام أيّ من الهيئات الدستوريّة أثناء ولايته وبعدها، ممّا جسّم على مستوى الممارسة الحكم الفردي المطلق. وفي نفس التوّجه، جاءت القوانين التي سنّها النظام لتحدّ من الحريّات العامة وأخضعت سائر الحريّات لوصاية وزير الداخلية. كما أُخضعت له العمليّة الانتخابية في كلّ مراحلها، وهكذا كرّست السلطة التنفيذية احتكار الحياة السياسيّة والعامّة، رغم كلّ الأصوات التي ارتفعت بالاحتجاج والمطالبة بالتعدّديّة الفعلية والديمقراطيّة.
إنّ التكتّل الديمقراطيّ من أجل العمل والحريّات يؤكد تمسّكه مع سائر القوى الحيّة بالبلاد بالنظام الجمهوري وبإعادة الاعتبار لأُسُسه ومنطلقاته ورهاناته ورفض منظومة الاستفراد بالحكم، وهو مصمّم على مواصلة العمل المشترك مع القوى الحيّة من أجل الانتقال بتونس إلى نظام جمهوري ديمقراطي يكفل الحرّيّات وسيادة القانون ويضمن الفصل والتوازن بين السلطات والتداول الديمقراطي على الحكم. إنّ إعادة الاعتبار للدستور تتمّ حتما بإصلاحات دستوريّة شاملة، لا تتحقّق إلاّ بأسس ومبادئ من أهمها:
–    الكّف نهائيا عن التلاعب بالدستور من خلال تنقيحات تتلاحق مع اقتراب المواعيد الانتخابية، تمّس من الحرمة التي ينبغي أن يتميّز بها الدستور و لا ترمي في الحقيقة إلاّ إلى ضمان استمرارية نفس الأشخاص في السلطة .
–    تحديد ولاية رئيس الجمهوريّة بدورتين فقط والحدّ من سلطاته بما يحقّق توازن الصلاحيّات بينه وبين الحكومة، وإقرار مبدأ مساءلته أمام هيئة يضبطها القانون.
–    الفصل بين الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية.
–    تكريس الدور التشريعي لمجلس النواب بما يكفل التوازن بين السلطات وإقرار مسؤوليّة الحكومة أمام مجلس النواب.
–    تكريس استقلال السلطة القضائية استقلالا تامّا عن السلطة التنفيذيّة تحت إشراف مجلس أعلى للقضاء تكون أغلبية أعضائه منتخبة.
–    إرساء محكمة دستورية تنظر في مدى ملائمة القوانين الذي تسنّ بالبلاد لأحكام الدستور، ويحقّ للتنظيمات وللمواطنين رفع التظلّمات لديها.
–    إطلاق سراح كافّة المساجين السياسيين وسنّ قانون العفو التشريعي العامّ.
–    وضع حدّ للمحاصرة المسلّطة على الأحزاب والتنظيمات المستقلّة وإقرار الدعم العمومي لسائر الأحزاب السياسيّة وللصحف التي تصدرها، دون قيد أو تمييز، والتنصيص على ذلك قانونا، وإقرار حقّ التنظّم لكلّ الراغبين في العمل المدني القانوني.
–    رفع كلّ أشكال القيود والوصاية على الإعلام قانونا وممارسة وفتح فضاءات الإعلام الوطني أمام الأحزاب والتنظيمات المعترف بها لإبلاغ أصواتها إلى المواطنين بكلّ حريّة.
–    إقرار نظام انتخابي  يقوم على التسجيل الآلي للناخبين ويضمن التعدّد في المجالس النيابية بإقرار النسبيّة، ويوكل الإشراف على العمليّة الانتخابية إلى لجنة وطنيّة مستقلّة تتمتّع بالنفوذ والصلاحيّات اللّازمة، ويجرِمُ التزييف في الانتخابات ويعاقب مرتكبيه.

2)    من أجل معارضة قويّة، موحّدة وفاعلة :
إنّ تحقيق هذه الإصلاحات الجوهريّة من أجل إرساء مجتمع المواطنة لن يكون بدون تكثيف أساليب النضال من أجلها وتوحيد الجهود في سبيلها. لقد أصبح من الأكيد أن يجتمع كلّ المتشبّثين بحقّ المواطنة حول رفض نشيط لكلّ أشكال “الديكور الديمقراطي”، انطلاقا من أنّ المساهمات السابقة قد عطّلت تطوّر المجتمع وعجزت –رغم أهميّة التنازلات التي قدّمها المساهمون في هذه اللّعبة المغشوشة- عن تغيير السلوك الاحتكاري للسلطة، بل إنّها شجّعتها على الغلوّ في احتلال كلّ الفضاءات، ودعّمت خيارها الأمني وما انجرّ عنه من انتهاكات متنوّعة لسائر الحريّات.
وفي إطار توسيع دائرة النضال من أجل الحريّات الأساسيّة في بلادنا، تشكّلت هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات، وما من شكّ أنّه من الضروري المحافظة على الدفع الذي حققته هذه الحركة ودعْمه باستمرار حتّى تتجسّد المطالب التي ما فتئت سائر القوى الوطنيّة الديمقراطية بالبلاد تناضل من أجلها منذ سنوات عديدة، وهي حريّة التنظم الحزبيّ والجمعياتي وحريّة التعبير والصِحافة وإطلاق سراح المساجين السياسيّين وسنّ قانون العفو التشريعي العامّ، فهي الأرضيّة الدنيا التي لا تقوم حياة سياسيّة وجمعياتيّة سليمة بدونها في أيّ بلاد. على هذه الأساس فإنّ توحيد العمل من اجل الحريّات الأساسيّة من جهة والتحاور داخل هذا الإطار، من جهة أخرى، حول القضايا الأساسيّة التي يقتضيها الانتقال إلى الديمقراطيّة في بلادنا يمثلان مكسبا لكلّ الأطراف المشاركة، إلاّ أنّه ينبغي أن يكون من الواضح أن  ذلك لا يعني البتّة تحالفا سياسيّا أو إقامة جبهة سياسيّة أو قيام قيادة سياسيّة معارضة جديدة بالبلاد، كما قَدْ يتبادر إلى الأذهان أو يُشيع ذلك أناس من داخل حركة 18 أكتوبر أو من خارجها: إنّ التحالف السياسيّ لا يقوم على فراغ ولا يفتح على المجهول، بل يقوم على رؤية متكاملة لنمط المجتمع الذي نريد بناءه والعيش فيه، رؤية واضحة ودقيقة لمختلف العناصر المكوّنة لنمط المجتمع، منها ما هو سياسيّ وما هو اقتصادي وما هو اجتماعيّ وما هو ثقافي وما هو تربوي…، وإذا كان المدخل لهذه الصورة، صورة نمط المجتمع، هو حتما توفير الحريّات الأساسيّة في المجتمع والنضال في سبيل إرْسائها لأنّها مُرتكزات النظام الديمقراطي، فإنّ مخارج هذه الصورة – وفي كلّ أوجه حياة المجتمع وتنظيمها – لا يمكن أن تكون معادية للديمقراطية أو متناقضة معها.
إنّ المهم اليوم هو تدعيم وحدة صفّ المعارضة الديمقراطيّة ودفع فكر العمل المشترك وتهيئة المناخ الملائم من الثقة المتبادلة لحمايته. وإنّنا في التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات لواعون عميق الوعي بدقّة المرحلة وجسامة الرهانات؛ ولذلك فإنّنا ندعو كلّ إخواننا وأخواتنا في صلب الحركة الديمقراطيّة، وخاصّة أحزاب المعارضة الديمقراطيّة المعنية بالانتخابات المقبلة، إلى بعث ائتلاف من أجل انتخابات ديمقراطيّة، حتّى نعمل جميعا و معا من أجل تعميق التشاور وتنسيق الجهود بما يتجاوز ذواتنا وأشخاصنا المتواضعة ويركّز على القواسم المشتركة في نضالاتنا وتوجّهاتنا وبرامجنا ويضع قضايا الحرّيات والديمقراطية وتقدّم بلادنا ومناعتها فوق كلّ اعتبار.
وإعلاءً لحقّ المواطن التونسيّ في التمتع بحياة سياسيّة سليمة تستجيب لتطلعاته في تجسيم الديمقراطيّة بكلّ حريّة وتعبّر فعلا عن سيادة الشعب دون أي شكل من أشكال الوصاية عليه، وتَمَسُّكا بحقّ كلّ حزب معارض في اختيار مرشحه للانتخابات الرئاسيّة، ورفضا لكلّ أساليب الإقصاء بتمرير قوانين دستوريّة استثنائيّة متعلّقة بالرئاسيّة في كلّ مرّة…كنّا أعلّنا عن قرار التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة القادمة، رغم كلّ العراقيل والصعوبات الجمّة والمتنوّعة التي ما فتئت السلطة تقيمها في وجه جزبنا من يوم تأسيسه، وفي وجه المعارضة الديمقراطيّة بصفة عامّة.
وإنّ المؤتمر الأوّل للتكتّل الديمقراطيّ من أجل العمل والحريّات ليعتّز اليوم كلّ الاعتزاز أن يعلن عن قراره ترشيحَ الأخ مصطفى بن جعفر الأمين العامّ للحزب للانتخابات الرئاسيّة القادمة، اعتبارا للحسّ الوطني العميق الذي يحدوه منذ شبابه، واعتبارا لإسهاماته في تأسيس الحركة الديمقراطيّة والتقدميّة والحقوقيّة في بلادنا ونضالاته في صُلب مختلف تنظيماتها وأطُرها السياسيّة والنقابيّة والحقوقيّة والاجتماعيّة منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة. واعتبارا لدوره الحاسم في تأسيس حزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريّات.
وإنّ المؤتمر الأوّل، إذ يعبِّر عن التفاف الحزب حول شخص الأخ مصطفى بن جعفر الأمين العام، ليعبّر عن العزم الراسخ لمناضلينا على إبلاغ صوت التكتّل إلى جماهير شعبنا والدفاع عن اختيارات الحزب وتوّجهاته على شتّى المستويات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة، بما يحوّل هذه المناسبة الانتخابية إلى حوار وطنّي شامل وعميق حول حاضر تونس ومستقبلها. وفي نفس الوقت، يندرج ترشيح الأخ مصطفى بن جعفر للانتخابات الرئاسيّة القادمة في مساهمة التكتّل في المعركة السياسيّة الجماعيّة التي تهدف إلى توفير ظروف الانتقال الديمقراطي في تكامل وتناسق مع المبادرات والنداءات العديدة التي صدرت عن أعداد غفيرة من التونسيّين في الداخل وفي المهجر، وفي مقدّمتها مبادرة ” السيادة للشعب”.
III)    توجّهاتنا في المجالين العربّي والدولي: من أجل عالم متوازن تسود الحريّة والمساواة والعدالة:
إنّ التكتّل الديمقراطيّ من اجل العمل والحريّات متعلق شديد التعلّق بإرساء قيم الحوار بين الشعوب وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها وفي التنمية والتقدّم وفي بيئة سليمة وحقّ العيش في سلام، في عالم خال من الأسلحة الفتّاكة التي تهدّد حاضر البشرية ومستقبلها؛ وفي المقابل فإنّ التكتّل الديمقراطي ينبذ كلّ أشكال التطرّف ومظاهرها العِرْقية والعنصرية والدينيّة، وكلّ أشكال الهيمنة والاستبداد والاستغلال والقمع. ويسعى التكتّل الديمقراطي باطّراد على إقامة علاقاته الخارجية على أسس احترام قيم الحريّة والعدالة والمساواة وتوثيق التعاون والتآخي مع سائر القوى المؤمنة بهذه المبادئ النبيلة.
وانطلاقا من الأسس التي تقوم عليها هوية الشعب التونسي في مختلف مُكوّناتها وأبعادها وشخصيته المنغرسة في الحضارة التي تنتمي إليها، والمتفتحة على كلّ ما يحيط به، فإنّ توّجهات التكتّل على الصعيد الخارجي تتشكلّ في مجموعة من الدوائر: الدائرة المغاربية والعربية، الدائرة الإقليميّة، والدائرة العالميّة.
1-    الدائرة المغاربية والعربية: يشكل الشعب التونسي جزءا من الأمة العربية، ويرتبط مصيره في التنمية والديمقراطيّة والحريّة بمدى تحقق أهداف أمته في التحرر والديمقراطيّة في علاقة تفاعليّة. وقد جسّدت قيادات الحركة الوطنيّة إبّان فترة الاستعمار طموح الشعب التونسي في الوحدة العربية من خلال رفع شعار وحدة المغرب العربي كخطوة أساسيّة نحو الوحدة العربية. وبالرغم من النكسات التي تسببت فيها سياسات الأنظمة في الفترات السابقة، فقد ظلّ طموح الوحدة المغاربية حيّا تدعم الشواهد الحيّة كل يوم حتمّيته كمسألة لا محيد عنها من أجل التنمية والأمن والديمقراطية .
والتكتّل الديمقراطي يعمل على إرساء علاقات تعاون مع كلّ مكونات المجتمع السياسي والمدني المغاربي، من اجل إيجاد صيغ تحقيق وحدة المغرب العربي.
كذلك على الصعيد العربي فإنّ التكتّل يعمل من اجل إيجاد الأطر اللازمة لتنمية مجتمع مدني عربي يوفر الإطار الضروري للشعوب من أجل تحقيق الوحدة.
كما أن التكتّل مطالب بالمساهمة الفعالة في النضال التحرّري للأمة العربية بالتصدي إلى أخطار الاحتلال والتفتيت سواء في فلسطين أو العراق أو الأراضي العربية المحتلة من دول الجوار الإقليمي. ويعتبر التكتّل الديمقراطي مسألة دعم الشعب الفلسطيني في النضال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الغاشم مهمة قوميّة وإنسانيّة نبيلة إلى أن تتمّ إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة الآمنة والقابلة للعيش الكريم، والتي تكون عاصمتها القدس الشريف.
2-    الدائرة الإقليميّة:
إن وقوع بلادنا على الشاطئ الجنوبي للمتوسط ضمن الامتداد الجغرافي العربي الذي يشكل الحيز الجنوبي لهذا البحر الذي تتشاطأ عليه أقدم الحضارات والشعوب يعطيها موقعا متميّزا بحكم احتكاكها الدائم طوال تاريخها بالفضاء الأوروبي، وبانغراس قدمها الثابت في محيطها الإفريقي والعربي والإسلامي، وهو ما يعطيها، في ظلّ وجود نظام ديمقراطي يكرّس قيم الحريّات والمواطنة، إمكانية التحوّل إلى رأس جسر للحوار الحضاري بين هذه الأبعاد المكونة لشخصيتها.
ولذلك يعمل التكتّل من أجل أن تلعب بلادنا دورها التاريخي كعنصر فاعل في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط وفي رسم سياسات تكامل وتعاون وتضامن في كلّ المجالات بين ضفتي المتوسط، بعيدا عن دور الشرطي الذي تحاول أن توكله دول الشمال إلى دول الجنوب لحماية نفسها من الهجرة السرية والإرهاب العابر للقارات.
وسيظل الصراع العربي الإسرائيلي قنبلة موقوتة تهدّد أمن واستقرار المتوسط، وذلك بسبب السياسات العنصرية التوسعية للكيان الإسرائيلي المدعوم خارجيا – بما في ذلك من بعض دول شمال المتوسط، ولا شكّ في أنّ استتباب أمن المتوسط يتطلب حلاّ عادلا للقضيّة الفلسطينيّة بتكريس حقّ العودة، والتصدي للهيمنة الإسرائيليّة وعقليّة التوّسع والاستيطان المتواصل ورفض الآخر. ومن ناحية أخرى، فإنّ نجاح أيّ تجمع بين بلدان ضفتّي المتوسط مرتبط بعنصر أساسيّ آخر، وهو التوازن بين القوى المكوّنة، وهو ما يحتم الإسراع ببناء الاتحاد المغاربيّ وتجاوز ما يعيقه بدءا بالبحث الجادّ عن حلّ لقضية الصحراء الغربيّة.

3-    الدائرة العالميّة:
لقد تسبّب انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي في انفراد الولايات المتحدة الأمريكيّة بمقدرات السياسة الدولية. وقد ترافق هذا التحوّل ببروز أفكار اليمين الجديد المرتكزة على تغذية الصراعات والحروب، والسيطرة على مُقدّرات الشعوب بالاحتلال العسكري المباشر كما حدث في العراق وأفغانستان. وتعتبر العولمة بذراعها الاقتصادي الذي كرّس مفهوم اقتصاد السوق الأداة التي تحاول بها القوة العالمية الجديدة إعادة صياغة العالم بما يخدم مصالحها، ومصالح فئات متنفذة في بلدان الأطراف المهيمنة عليها. وقد أدّت هذه السياسات التي تستهدف القضاء على مكتسبات الشعوب إلى ظهور حركات اجتماعية عالمية للدفاع عن حقّ الشعوب في تنمية عادلة وفي حياة بيئية سليمة وفي حياة سياسية ديمقراطية.
والتكتّل، باعتباره تنظيما وطنيا يدافع عن حق الفئات والطبقات الاجتماعية الكادحة في توزيع عادل للثروة وفي مقاومة البطالة والتهميش الاجتماعي، مطالب بالمساهمة في المجهودين النظري والنضالي من أجل إعلاء قيم العدالة والتصدّي للرأس مالية المتوحشة.
ولئن جاء التغيير الذي حصل في الإدارة الأمريكيّة دافعا إلى شيء من الأمل والانفراج في العلاقات الدوليّة، وخاصة في علاقات الولايات المتحدّة الأمريكيّة بالعالميْن العربي والإسلاميّ، فإنّه لا بدّ من تواصل اليقظة والحذر، والعمل في نفس الآن على الدفع في اتجاه هذا الانفراج وبناء علاقات دوليّة جديدة تقطع مع سياسة العنف والحرب والتهديد وممارسة الغزّو لبلدان الغير وإقامة المحتشدات وضرب الحرّيات بشكل لا مثيل له في العلاقات الدوليّة.
وفي سبيل إشاعة قيم الحريّة والمساواة والعدالة والحوار وتكريسها في العلاقات بين الشعوب والدول، ومن أجل أن ترتكز الشرعيّة الدوليّة على أسس هذه القيم والمبادئ الكونيّة النبيلة وأن تلتزم باحترامها، وخاصة في حلّ النزاعات والخلافات بين الدول، بعيدا عن سياسة المكيالين المُضرّة بهيبة المنظومة الأمميّة وسمعتها، يعمل التكتّل الديمقراطي على إقامة علاقات مع عديد القوى والمنظمات والأحزاب في العالم وعلى توثيق التحاور والتعاون معها. إنّ من شأن أيّ حزب أن يربط علاقات بغيره من المنظمات داخل الوطن وخارجه، وبحُكم علاقات تونس التقليديّة مع بلدان الاتحاد الأوروبي، وبحُكم عضويّة حزبنا الكاملة في منظمة الاشتراكية الدوليّة، فمن الطبيعيّ جدّا أن يساهم ممثلوه – وعلى رأسهم الأمين العام الأخ مصطفى بن جعفر – في الندوات السياسيّة داخل البلاد وخارجها، وأن تكون لنا اتصالات ومشاورات معها. لذلك فإنّ تهمة ” الإستقواء بالخارج ” التي توجّه إلينا وإلى بعض أحزاب المعارضة الديمقراطيّة الأخرى، كلّما كان لحزبنا نشاط واتصالات خارج البلاد، تهمة مرفوضة جملة وتفصيلا، سياسيا ومبدئيا وأخلاقيّا. إنّ دعم علاقات التكتّل بالمنظمات الخارجيّة، وفي مقدمتها الاشتراكية الدوليّة – التي تنتمي إليها عشرات الأحزاب في العالم، الغربيّة منها والعربيّة، ومن بينها التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم، ينبغي أن يواكبه دعم العلاقات الإيجابية التي تقوم على الاحترام والتعاون فيما بين هذه الأطراف المختلفة، خدمة لقضايا السِلْم والحريّة والمساواة والتضامن في العالم، لا أن تواكبه علاقات متوتّرة أو عدائيّة.
إنّه لا غنى لنا ولا بديل في كلّ هذه الدوائر، الوطنّي منها – بكلّ مكوّناته، في السلطة والمعارضة- والمغاربيّ والعربي والإقليمي والدّوليّ، عن قيم الحوار التي تستند إلى احترام الغير واحترام الحقّ في الاختلاف، والقادرة وحدها على بناء علاقات جديدة ثابتة ومثمرة لكلّ الأطراف وعلى كلّ هذه المستويات. إنّ مسؤولياتنا الأساسيّة تتمثل في الإقدام على إصلاح أنظمتنا وطنّيا ومغاربيّا وعربيّا بما يضمن الحريّة والمواطنة أي تشريك الشعوب في نحت مصيرها وانخراطها طوعيّا وبكلّ اقتناع وإيمان في مواجهة تحدّيات الحاضر والمستقبل. إنّ إشاعة روح المواطنة هي بناء الأمل وبناء المستقبل، والمواطنة هي السمّة الأساسيّة للنظام الديمقراطي. ولقد أثبت التاريخ الحديث أنّ الديمقراطيّة ليست فقط حقّا نصّر على اكتسابه ونناضل من أجله، بل هي بكلّ تأكيد الأداة الضروريّة التي لا محيد عنها إذا أردنا تحقيق المشروع التنموي الشامل والعادل بأبعاده السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المتداخلة والمتكاملة فيها بينها، وإذا ما تعلقنا حقّا بانصهار شعبنا في حركة التطوّر البشري نحو مزيد من التقدّم والحريّة.
وإنّ مختلف هذه القيم التي ننشدها ونناضل من أجلها لتكتسي أهميّة خاصّة في هذه السنة، إذ من المفروض ألاّ تكون  الانتخابات القادمة مجرّد موعد انتخابي بل تتويجا لمسار ديمقراطي حقيقيّ، تنتفي معه كلّ أشكال الإقصاء والتهميش والمحاصرة لأحزاب المعارضة ومسائر مكوّنات المجتمع المدني، وتزول فيه العراقيل أمام حريّة التعبير، وتفتَحُ فيه فضاءات الإذاعة والتلفزة الوطنيّة أمام كلّ الأحزاب الوطنيّة دون استثناء، إيمانا بحقّ المواطن في  أن تصل إليه أصوات التنظيمات الوطنيّة. إنّ بناء هذه العلاقة الجديدة بين السلطة والأحزاب السياسيّة والمنظّمات الوطنيّة والمواطنين عامّة، وإنّ احترام الدولة لكافة مكوّنات المجتمع وضمان حقّها في الاختلاف مع السلطة، وإنّ احترام حريّة المجتمع لهي الأسس التي تبني هيبة الدولة وتضمن مناعة البلاد وتوّفر ظروف الاستقرار الحقيقي والدائم. ولذلك جعلنا مؤتمرنا الأوّل تحت شعار يلخّص برنامج حزبنا برّمته وهو   ” من أجل مجتمع المواطنة ” .