بقلم السيد حامد الماطري، عضو المكتب السياسي لحزب التكتل

 
يتأرجح برميل النفط منذ مدة عند مستوى 80-85 دولار، مع توقعات بأنه قد يكسب نقاطاً اخرى مع انعدام الاستقرار السياسي، ليتجاوز سعر مزيج البرينت حاجز التسعين
دولاراً. اما في تونس، فنحن اليوم على أبواب سنّ قانون المالية الجديد. ندخله ونحن نسجّل عجزاً تجاريّاً للسنة المنقضية بمستوى 12 مليار دينار. عجز يتزايد سنة بعد أخرى، يتضخّم بحكم التراكم، وبحكم تهاوي الدينار، وأكثر من كل شيء، بحكم مواصلة السياسات الخاطئة ورفض المضي في إصلاحات حقيقية. في قانون المالية للسنة المنقضية، قدّرت الحكومة التونسية معدّل أسعار النفط لسنة 2018 عند 54 دولاراً… طبعاً لم تكن الحكومة او الادارة غافلة عن كون هذا الرقم غير واقعي، وانه سيسبب خرماً في الميزانية، ولكنها ذات سياسة الهروب الى الامام وتشتيت الانتباه بمعارك جانبية.. تماماً كما كانت تدرك ان سعر صرف الدينار الذي بنت عليه ميزانيّتها غير واقعي. في ميزانية 2019، وقع تقدير سعر برميل النفط عند معدّل 72 دولاراً!
لا ادري كيف تنوي هاته الحكومة التعامل مع العجز المالي، وخصوصاً العجز الطّاقي الذي يحمل وحده اكثر من ثلث هاته الفاتورة… العجز الطاقي الذي يكلّف لوحده اكثر من كامل مداخيل السياحة.. اكثر من مجموع المداخيل الصادرات الفلاحية.. كل التحاليل التي قدّرت على اساسها الحكومة التونسية ان المشكلة ظرفية وأن القادم أحسن، يبدو انها كانت من قبيل الأماني المتفائلة، والواقع يقول ان أسعار البترول ستكون في صعود لا نزول في الفترة المقبلة، اي ان العجز سيزداد وان الهوة ستكبر. هل تحمل تونس برنامجاً لمعالجة هذا الوضع؟ او على الأقل الخفض من حدّته؟ مع كل احتراماتي للقطاعات الاخرى، يمثل القطاع الطاقي والمنجمي اكثر المجالات تأثيراً على توازنات البلاد وهو الذي يجمع سبعة من اهم عشر شركات في البلاد على مستوى رقم المعاملات. ربما سيبدأ البعض بإدراك حجم الخطأ اللامسؤول الذي اقدمت عليه الحكومة بنسف وزارة الطاقة -من دون موجب حقيقي- وإلحاقها بالصناعة في حركة استعراضية رعناء…
هل تدرك المنظومة الحاكمة معنى ان يمرّ على ملفّ الطاقة خمسة وزراء في ثلاث سنوات؟ عن اي مشروع او استراتيجيا نتحدث؟ هل يمكن ان نتحدّث عن مردود او كفاءة في ظلّ مثل هذا الارتجال؟ كمال بن ناصر، منجي مرزوق، هالة شيخ روحه او خالد قدور، كلها كفاءات من طراز عالمي، لا شك في نزاهتها او في قدرتها على وضع خطط تعالج حاضر القطاع او مستقبله، على شرط ان تتوفّر الأذن الصاغية والارادة والشجاعة اللازمين. جميعهم لم يقضي مدة كافية لوضع خطة او الانطلاق في انجازها. جميعهم أقصوا دون ان يكون عليهم مآخذ حول كفاءتهم او جديتهم، بل كانوا مجرّد ورقات أسقطتها حسابات سياسية غارقة في السطحية. هل كان العيب فيهم وهم الذين لم يمكثوا في مناصبهم اكثر من اشهر معدودة، ام العيب في من استمرّ في “اللّعب” بمستقبل البلاد فاستعمل الوزراء كشمّاعات فشل، يداري بهم عن فضائحه ووعوده الكاذبة، اليس العيب في من استعمل الحكومات كحبّات مسكّنة، يجب تغييرها مرة كل سنة، فيما حافظوا هم على مناصبهم، في قرطاج او في باردو، او في الأحزاب النافذة؟
اكره ان أقول أنّنا سبق وتكهّنّا بما سيحدث، ولكننا فعلاً نبّهنا كثيراً وقت هبوط أسعار البترول عن كون الأزمة وقتية، لن تدوم اكثر من سنوات معدودة قبل ان يجد سوق النفط توازنه من جديد ويستعيد عافيته بارتفاع أسعاره. اوضحنا ان دفعة الاوكسيجين التي تحققت مع تولّي حكومة التوافق الاولى -كهديّة من السماء- مع نزول أسعار البترول في أواخر 2014، لا يجب ان تتخذها المالية التونسية كقاعدة يمكن التخطيط معها لسنوات لاحقة، بل ان الأحرى اعتبارها فرصة لتحقيق شيء من التوازن الداخلي في المنظومة الطاقية، شيئاً كالسبع سنوات السمان اللتي ستكون فرصة لاستباق السنوات العجاف. نادينا بالمحافظة على النسيج الصناعي والخدماتي في قطاع النفط ودعمه حتى لا نخسره، فيغادر البلاد تحت تأثير الأزمة التي خنقته. فسّرنا كيف انه اذا لم تتعامل السلطة بشيء من المرونة والاستشراف، وتحافظ على حد أدنى من الجاذبية للسوق التونسية، ستخسر البلاد شركاءها الإستراتيجيين وستجبر على التعامل مع صغرى الشركات البترولية من المضاربين والمسقطين على الميدان ممن لا ترجى منهم أي قيمة مضافة. نادينا ايضاً بألا يقع التصرف في المحفظة المالية التي وقع ادخارها بسبب نزول أسعار البترول والغاز، بل ان يقع تحويلها لدعم البنية التحتية من انابيب وخزانات وتجهيزات، وضمان مردودية اكبر للقطاع ونجاعة اكبر للمؤسسات التي تنظّمه، لتطوير مصادر الطاقة البديلة. اعتبرنا “السنوات السمان” فرصة لاصلاح منظومة الدّعم وترشيد الاستهلاك، بعيداً عن الضّغوطات التي تفرضها التوازنات الماليّة اذا تفاقم العجز، ولكنّ الدولة وجدتها فرصة لاقرار زيادات اخرى في الجرايات بما زاد الطين بلّة وصعّد من وتيرة التضخّم.



للأسف، تكلّمنا كثيراً وطويلاً ولم يكن قطّ من يصغي او يستجيب. اليوم نجد أنفسنا من جديد في مربّع البداية، لا لان أحداً لم يحاول او لم يجتهد، بل لان كلّ المحاولات قد أجهضت، وكل المجهودات التي بذلت ذهبت هباء، بفعل العبث السياسي الذي تمارسه النخبة الحاكمة منذ سنوات. كلّ المشاريع متأخّرة ومعطّلة، وما كان منتظراً انجازه منذ 2015 من مشروع غاز الجنوب نوارة او محطات الطاقة الشمسية او عمليات الحفر او التطوير، كلها مشاريع متأخّرة او معطّلة او هي لا تزال حبراً على ورق. الإنتاج الوطني من المحروقات نزل إلى مستويات غير معقولة، والقطاع النفطي هو تقريباً يحتضر. عدد اللزمات المسندة في نزول مستمر، ولا المناخ الإقتصادي ولا الإجتماعي يشجع على الأستثمار أو المبادرة إذ أصبح الاقدام على حفر بئر مغامرة غير محسوبة العواقب… ترتيب تونس في إنتاج البترول تراجع لدرجة أن دول مثل ألمانيا واليابان (أي نعم) تجاوزتنا، ولا زال بيننا من يتسائل “وينو البترول” ويبحث عن بحر النفط الذي نسبح فوقه، أو يعتصم مطالباً بحقه في الثروة التي يحوزها في أرضه !حتى الحكومة دخلت على الخط وصارت تتبنى أدبيات “وينو البترول” وتحارب “الفساد” باختلاق الملفات وتلفيقها، بطرد المسؤولين قبل فتح التحقيقات، والبحث عن الحقول التي تستغل من دون رخصة.. لكن، وللاسف، عجلة الزمن لا تنتظر التوافق ودخانه الأبيض، او نتائج صراع الشقوق الندائية، واذا كانت تونس قد استطاعت ان تتعامل مع الارتفاع المشطّ في أسعار النفط سنوات 2012-2013، فالأكيد انها غير قادرة على التعامل مع وضع شبيه نحن بصدد الإقبال عليه، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الماضية، وتدهور سعر صرف الدينار.
تقدّر الدراسات ان كل دولار في سعر البرميل يحمل انعكاساً مباشراً على المالية العمومية بما يقارب80 مليار، وان كل كل تراجع في سعر صرف الدينار بعشرة مليمات مقارنة بالدولار، ستحمل عبئاً اضافياً بعشرين ملياراً آخرين. مع مثل هذه التأثيرات، يمكن تصوّر تبعات السوق العالمية على اقتصادنا، وخطورة سوء التخطيط او سوء تقدير التحديات.
اتساءل وانا اخشى الإجابة عن هذا السؤال الملحّ: كيف ستتعامل الدولة اذا ما تضاعف العجز تحت التأثير المضاعف لانحسار المنتوج، وتصاعد الأسعار، ونزول قيمة الدينار؟ لا ارى الا حلا من إثنين، أولهما رفع الدعم عن الطاقة، وهو طرح تحت الدرس، مهما أنكرت منظومة الحكم الامر او حاولت تغليفه بمسميات وعناوين اخرى. رفعاً لن يكون متدرّجاً او عادلاً كما أردناه، بل أشبه بإنفجار الفقاعة. الحل الثاني -إن صحة تسميته بالحل- هو تسارع وتيرة التداين إلى مستويات غير مسبوقة والتخلي عملياً عن القرار الوطني لمصلحة دائنيه، دولاً ومؤسسات.
لست من المولولين، او من دعاة الخراب، ولكنني استغرب مقولة يعد فيها رئيس الحكومة التونسيين بان السنة الحالية هي “آخر السنوات الصعبة”، في حين انني -وأخشى صدقاً ان أكون محقّاً- اعتقد اننا سندخل مرحلة اصعب، خصوصاً اذا تأكّدت حالة انعدام الاستقرار الإقليمي وتزايد المخاوف على إمدادات السوق. سنة هي أصلاً صعبة جدّاً مع كونها سنة انتخابية، ندخلها بشيء من التّشظّي والاختلال ونزول الصراع السياسي الى مستويات لا تنبئ بخير.

مقال مماثل باللغة الفرنسية على جريدة ليدرز