في السادس من ماي 2018، دارت في تونس الإنتخابات البلدية الأولى بعد الثورة والتي رافق تنظيمها جدل كبير خاصة في ما يتعلق بمجلة الجماعات المحلية وأزمة التسييـر داخل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالاضافة الى مسائل تقنية وسياسية متعددة ومتفاوتة الأهمية. وقد رافق انطلاق الحملة الانتخابية وعملية التصويت مناخ من التأزم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي خاصة في ما يتعلق بالحكومة التي يترأسها يوسف الشاهد، قيادي في الحزب الفائز في انتخابات 2014، والتي اعتمدت محاصصة مثيرة للجدل فرضتها ما أطلق عليه “اتفاق قرطاج” في إشارة الى قصر قرطاج، مقر رئاسة الجمهورية التونسية، وفي خصوص مسألة مشاركة القوات الحاملة للسلاح في الانتخابات المحلية إضافة الى الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في البلاد والتي تتصاعد حدتها في ظل عجز الحكومات المتعاقبة عن التحكم فيها.
ورغم المجهودات التي بذلها مجلس نواب الشعب من أجل اجراء هذه الانتخابات في آجالها الدستورية وتدارك عدم الجاهزية التي تكلفت على الاستحقاق الانتخابي تأجيلا طال أمده لسنتين فضلا عن التسريع في المصادقة على مجلة الجماعات المحلية، فإن الانتخابات جرت في جو عزوف كبير عن الإقبال على الحملة الانتخابية يصل الى اللامبالاة التامة من طرف المواطنين وحتى الإعلام. تميزت هذه الانتخابات بمنسوب أدنى من الخطاب السياسي المتشنج والعنف السياسي، وهما ميزتان أساسيتان للانتخابات الفارطة، ولكن ظواهر سلبية قديمة ظلت تعيـد نفسها باستمرار مثل استعمال المال السياسي الفاسد، استغلال وسائل الدولة لخوض غمار الانتخابات وهنات تقنية عديدة. وتجدر الاشارة أن العملية الانتخابية توقفت صباحا في بلدية المظيلة من ولاية قفصة بعد أن عمد مواطنون الى تهشيم صناديق الاقتراع في عملية “احتجاجية” لتتأجل الانتخابات في هذه البلدية الى يوم 27 ماي.
وقد توجه نحو المليون وثمانية مئة ناخب للادلاء بأصواتهم، بنسبة مشاركة ضئيلة جدا قاربت 35.6 % من مجموع المسجلين، ما يترجم عزوفا جماعيا عن المشاركة في ظل أزمة ثقة بين المواطن والسياسي وتواتر الوعود الانتخابية الزائفة علاوة على التقصير النسبي لكافة الأطراف المعنية بالعملية الانتخابية في سبيـل دعوة التونسيين للتعبيـر عن إرادتهم بشكل حر. أما في ما يتعلق بنزاهة وشفافية الانتخابات، شهد يوم الاقتراع مخالفات انتخابية متفاوتة الخطورة دونها هيئة الانتخابات وملاحظو هيئة الانتخابات وملاحظو المجتمع المدني، وحسمت المحكمة الادارية في جميع الطعون التي تلقتها، دون أن يكون لذلك تغيير على مستوى النتائج الأولية. وأعربت بعثات الملاحظين الدوليين لمراقبة الانتخابات عن قلقها في ظل تدني نسبة المشاركة وبعض المسائل المتعلقة بتوزيع التوقيت التلفزي والاذاعي على المترشحين. أنتجت الانتخابات مشهدا سياسيا غير واضح المعالم، ظاهره هيمنة الحزبين الحاكمين، حركتي النهضة ونداء تونس، على صدارة نتائج الانتخابات على المستوى الوطني، فقد أحرزا على التوالي على 28.6 % و 20.8 % ، ما يقارب 50% من نسبة الأصوات في المجموع، أما باطنه، فهو يبـرز عديد المؤشرات الإجابية في خانة التعددية السياسية والبدائل التي تطرحها رهانات الحكم البلدي، لعل أهمها تصدر القائمات المستقلة، في عديد البلديات، لنتائج توزيع المقاعد في المجالس البلدية، بنسبة ناهزت ثلث البلديات التي دارت فيها الانتخابات.

هذا وقد تحصلت قائمات قريبة من وسط اليسار (التيار الديمقراطي) و أقصى اليسار (الجبهة الشعبية) على إجمالي من المقاعد بلغ 2.85 % و 3.6 % رغم أن التيار الديمقراطي يتجاوز الجبهة الشعبية على مستوى العدد الجملي للناخبين وهو مؤشر يوحي بتغير طفيف في نوايا التصويت نحو قوى أقرب الى استحقاقات الثورة (مكافحة الفساد، الحريات الفردية، العدالة الاجتماعية) مقارنة بالاحزاب الحاكمة التي نزلت نسب التصويت لفائدتها بصفة ملحوظة لا سيما حركة نداء تونس.

حملت نتائج انتخابات ماي 2018 تغييـرات ليست موضع اجماع حول أهميتها، أولها استقلالية القائمات التي أودعت ترشحاتها تحت يافطة “القائمات المستقلة”، وكان الغرض من ذلك يتراوح بين مسائل تقنية تطرحها مسألة التناصف الأفقي ومسائل تكتيكية مرتبطة باستثمار ألوان سياسية لقاعدة أكبر البقايا، ولكن جلـها يمثل قائمات غير منظوية تحت رايات حزبيـة، يمثل أغلبها المجتمع المدني الديمقراطي ذو التمركز المحلي بخيارات غير متماهية مع خيارات القائمات التي دفعت بها الاحزاب الحاكمة. يبدو أن التمعن في النتائج المرضية للقائمات المستقلة أمر هام لاستخلاص الدروس والتحليل العقلاني. فالقائمات المستقلة، لئن تبدو في شكل كتلة غير متجانسة ومشـتتة على البلديات، فإن الرهان الأبرز الذي تواجهه هو توحدها في المجالس البلدية حتى تملي خياراتها بشكل جدي على المستوى المحلي كما أن الرهان الأصعب هو أن تكون لديها تنسيقية وطنية تزيـد في تناغم خياراتها في ما بينها، وذلك في غياب إرادة سياسية لوضع حجر الأساس لـ”خط ثالث” يجسد إرادة الناخبين بعيدا عن خيارات السلطة وأحزابها.

بشير عبيدي