إن مؤسسات الدولة لا يمكن ان تفرض الاحترام لنفسها إلا إذا ألتزمت بدستور البلاد، كما ان  القرارات الرئاسية والوزارية تفقد من شرعيتها اذا اخلت بالدستور كما ان اية سلطة سواء كانت تشريعية او تنفذية تفقد كذلك من مصداقيتها وشرعيتها اذا اخلت بما يقره ويضبطه دستور البلاد. وان هيبة الدولة و سمعتها تبنى على اساس ان يكون رئيس الدولة حارسا امينا لدستور البلاد وان لايقبل الاخلال باحكامه وفصوله و هكذا تبنى الثقة بين الحاكم والمحكوم  ليؤسس رجل الدولة دولة القانون والمؤسسات. اذا ليس هناك اي مبرر للإخلال بدستورالبلاد في مرحلة دقيقة وصعبة تعيشها تونس نظرا للتهديدات الداخلية والخارجية التي تتربص بديمقراطيتنا الفتية.

 تنتظرنا مهام كبيرة ودقيقة جدا اهمها مراجعة قوانين البلاد حتى تصبح مطابقة للدستور وهو شرط اساسي للخروج نهائيا وبلا رجعة من اسلوب الحكم الاستبدادي الذي اعتمد على قاعدة ما يمنحه الدستور من حقوق ومن حريات اساسية تليغه القوانين التي تحدد كيفية تطبيق فصول هذا الدستور هذا اسلوب اعتمدته ديكتاتوريات عديدة اكل عليها الدهر وشرب وتقلص وجودها في العالم ولاشك ان رئيس الجمهورية لايجهل ان هذا الاسلوب اضافة الى خرق الدستور تسبب في نهاية المطاف الى هروب بن علي، هذا الانهيار الذي كلف تونس ثمنا باهضا ولا يزال يستنزف الى اليوم قدراتنا نذكر على السبيل الذكر لا الحصر عائدات الحوض المنجمي وعائدات السياحة وتكلفة الحراك الاجتماعي وتعطيل العمل في عدة قطاعات حيوية

الحكمة اليوم في استخلاص العبر من كل الاخطاء التي خلقت في الماضي الشعور بالظلم والحرمان ونتج عنها تهميش العديد من الجهات والفئات الاجتماعية والحكمة تكمن في خلق الامل في فتح افق جديدة قوامها الثقة والعدل والمساواة

 يخطئ من يعتقد بان نظام بن علي احسن من الحكومات التي جاءت بعد فراره من البلاد وكأن هنالك من خطط من داخل تونس لإسقاط نظامه الاستبدادي …الثورة ورثت انهيار نظام قمعي انتهى به المطاف عند غروب يوم 14 جانفي 2011 . انهار نظام الشخص الواحد عندما اصبح العام والخاص يعي بان بن علي وحاشيته وأصهاره نهبوا الاموال العمومية واستبدوا على المواطنين استبدادا لامثيل له في هذا العصر الذي لا يسمح للدول بان ترتقي وتتقدم وتتطور الا عندما تكون كل المؤسسات الاقتصادية والسياسية سليمة مبنية بناءا صلبا على قاعدة العدل والإنصاف لا على قاعدة المحسوبية ومنح الامتيازات والفرص لفئة دون غيرها من الفئات. وهي سياسة تبنتها دولة حزب التجمع “اللادستوري واللاديموقراطي” الذي حكم البلاد طيلة عقود طويلة. هذا النظام الذي ولد الشعور بالظلم والحيف لدى الفئات الصاعدة التي تخرجت من الجامعات ومن المدارس وخرجت نهائيا من عصر الجهل والتخلف.ولم يواكب  نظام الحكم سابقا التطور الحاصل في تونس ولم يقرا اي حساب للثورة الاعلامية والتكنولوجية في العالم والتي تأثرت بها تونس قبل غيرها من الدول العربية والمغاربية فكانت شرارة الحوض المنجمي سنة 2008 ومرة اخرى اخطأ نظام الحكم في قراءة اسبابها وفي استخلاص عبرها وبالتالي لجا الى اجراءات امنية وقمعية مهدت السبيل الى انهيار وسقوط نظام بن علي.

ويبدو ان القائمين بشؤون الدولة اليوم بعد الخروج من المرحلة الانتقالية لم يقوموا باستنتاج العبر من اخطاء الماضي وكأنهم يعملون من اجل استعادة منظومة التجمع المنحل. كيف ينظر اليوم المئات من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل الى مشروع المصالحة الذي تبنته الحكومة، حكومة حركة نداء وحركة النهضة؟ خيبة امل كبيرة انتابت الفئات المحرومة التي كانت تنتظر معرفة الحقيقة والوقوف على حقيقة التركة التي خلفها عصر تفشى فيه الفساد والمحسوبية وسيطرت عليه مافيا شرسة واستولت على دواليب الدولة وسخرتها لنفسها، كل الفئات الاجتماعية بل ان الشعب التونسي يتطلع اليوم لمعرفة الحقيقة كاملة وكشف الاخطبوط الخطير الذي طوع مؤسسات الدولة وكل السلط  لبلوغ اهدافه اللامشروعة.

اننا لا نضع كل رجال الاعمال في سلة واحدة لان هناك رجال اعمال شرفاء يتحلون بخصال وطنية لا شك فيها و ساهموا في تنمية البلاد وبناء وخلق الثروات وبنوا صناعات ومؤسسات تعد مفخرة لتونس، ويشكلون اغلبية رجال الاعمال في تونس، وهناك من تعرض منهم الى الابتزاز  والسطو من طرف اصهار بن علي وهناك من تعرضوا للافلاس والانهيار تحت الديون الطائلة وهناك من تعرض لاختلاس مشاريعه والأمثلة عديدة ومتنوعة ، هذا الصنف من رجال العمال لا يخشى نشر الحقيقة بل يطالب بها.

ان مشروع المصالحة الذي تبنته الحكومة يهدد الانسجام والوحدة الوطنية التي نحتاجها اليوم وفي هذا الظرف الصعب الذي تعيشه تونس في حربها المقدسة ضد الارهاب، هذا الظرف الذي يتطلب جبهة وطنية صلبة وعريضة لمجابهة هذا العدو الذي تمتد اطرافه في الداخل و الخارج والذي يهدد مكاسبنا في كل المجالات.

لنترك هيئة الحقيقة والكرامة تعمل طبق ماحدده لها الدستور ولنعطيها كل الامكانيات التي تحتاجها للقيام بمهامها ليس مل اجل التشفي والانتتقام بل لكشف الحقيقة.لاننا لا نقول ان مشروع المصالحة هذا يمكن من الافلات من العقاب فنحن لسنا من انصار تسليط العقاب بل نقول بان هذا المشروع يمكن من الافلات من المساءلة والمصارحة والمحاسبة الذي يؤدي في نهاية المطاف الى المصالحة الحقيقية. فالامر يتعلق اساسا باختلاس الاموال العمومية والدولة لن تتحلى ولن تفرض فيها الهيبة المنشودة الا اذا استكملنا هذا التمشي السليم الذي سلكته عديد الدول كجنوب افريقيا وغيرها من الدول.

قبل انتخابات اكتوبر 2014 تم حسم كل الخلافات وبالتالي تحقيق التوافق بالاعتماد على الحوار الوطني وبمشاركة عديد الاطراف – والذي كنا من اوائل من دعمه واستجاب له-. ان التمشي الذي يفرضه مشروع المصالحة الذي تقدمت به الحكومة يعتمد على اسلوب فرض الامر الواقع الذي اعتمد سابقا في عهد الاستبداد، ان التوافق بين حركة نداء تونس وحركة النهضة يخلق اسلوبا جديداوخطيرا يعتمد على هيمنة عمادها نتائج انتخابات سيطرت عليها قوة المال واسفرت على طغيان حزبين لهما من الامكانيات المادية- لانعرف مصدرها الحقيقي- مكنتهما من النفاذ الى كل جهات البلاد حيث فتحا مقرات حزبية بتكاليف باهظة في كل جهات البلاد و حتى المناطق المنعزلة والنائية، وهذا الامر يتطلب تحليلا ضافيا من الخبراء الاكادميين انارة للراي العام وسعيا لبناء ديموقراطية حقيقية تقترب اكثر الى العدالة والمساوة بين الاحزاب والعائلات الفكرية.

ان مثل هذا الوفاق الثنائي مرفوض سيما وان الراي العام رفض رفضا قطعيا في المرحلة الانتقالية اسلوب الترويكا ولم تستعد  تونس انسجامها واستقرارها الا عندما اهتدت الى الحوار الوطني الذي يوصل الى التوافق والوفاق بين كل الاطراف . نحن اليوم في حاجة اكيدة الى هذا التمشي السليم و نعتقد ان حركة نداء تونس وحركة النهضة لم تستوعبا بعد الدرس من رفض التوافق واحتكار القرار من طرف اغلبية عددية لا ترتكز على الانخراط الشعبي العريض وكان الاغلبية البرلمانية ترفض المراجعة والذهاب الى الحوار الوطني وهي الطريقة الاسلم في نظرنا للخروج من هذا المازق.حوار تشارك فيه كل الاطراف المشاركة في الحوار السابق مع مشاركة اساتذة ضالعين في القانون الدستوري ورؤوساء الكتل البرلمانية ورؤوساء اللجان وبمشاركة اساسية لهيئة الحقيقة والكرامة التي اقر الدستور اختصاصها في ملف المصالحة هذا الحوار سينتج افكارا يثري هيئة الحقيقة والكرامة ويسهل اعمالها ولا يسحب منها صلاحياتها ودورها الذي اقره دستور البلاد. ان مشروع المصالحةالذي يهدف الى القيام بمسار مواز لهيئة الحقيقة والكرامة يبقى في نظرنا مخالف للدستور ويحمل في طياته بذور الانشقاق ويهدد استقرار البلاد وينذر بانفجار الفئات المحرومة والجهات المهمشة.

ولانعتقد ان من مصلحة الحكومة الاولى بعد الخروج من المرحلة الانتقالية ان تزج بنفسها في هذا المنزلق الخطير الذي يفقدها انسجامها ومصداقيتها. وان الخوف من معرفة الحقيقة لا يقود الا الى تواصل منظومة الفساد والاستبداد وان هذا الشعب الذي تخلص من الخوف ومن ومنظومة القمع بلغ درجة من النضج والوعي اصبح بموجبها محصنا من محولات المغالطة والتضليل

محمد بنور 

نسخة من النص المنشور في جريدة الشروق يوم  22 أوت 2015