مقدَمة

تواجه تونس و شعبها، بعد نصف قرن من الاستقلال وثمانية عشر عاما من التغيير المعلن عنه، أزمة عميقة على مستوى الدولة و قطيعة نهائية بين السلطة والمجتمع. وإنّ السُّكوت عن هذا الوضع لهو استقالة  تعني مزيد تردّي بلادنا في هاوية الأزمة و ما يترتّب عليها من عواقب و خيمة. و قد اخترنا في التَكتُّل الديمقراطي من أجل العمل و الحريات  طريق الواجب، وهو طريق النَضال من اجل  الحرَية و الديمقراطيّة و العدالة الاجتماعية نضالا جادا هادئا وسلميًّا. فمن أجل  تحقيق هذا الهدف أسّسنا حزبنا و هو حزب متفتّح على المستقبل ، و إطار للنضال السياسي متضامن مع كلّ القوى الّتي تكافح الظلم و الاستبداد والفساد بهدف إرساء ديمقراطيّة حقيقيّة تحترم التعدّدية السياسيّة و التداول على الحكم و كرامة المواطن و حقّه المقدّس في التعبير و التنظّم، واختيار ممثّليه في كل المستويات اختيارا حرا تاما ، يهدف إلى إرساء دولة القانون التي تحترم حقوق الإنسان و تحميها  ولا تحلّ محلّ المجتمع المدني.

I-الأزمة و أبعادها:
أزمة النَظام هي أزمة الحزب الحاكم
لقد تبنّت حركة التحرير غداة الاستقلال مبدأ الاقتراع العام بهدف ترسيخ الإرادة الشعبيّة، لكن الواقع  بيَن أن النضال من أجل الاستقلال و سيادة الشعب سرعان ما  صادره الحزب الحاكم الّذي تعرّض لأزمة مزدوجة:
– أزمة دوره القيادي: و تتمثَل في أن الحزب بتعويض مبدأ الانتخاب بعمليَة التعيين، قد تحوّل إلى هيكل إداري في خدمة السلطة الفرديّة  الّتي يمارسها رئيس الدولة -الحزب.
بل إنّ مفهوم النضاليّة نفسه قد تشوّه. فقد أصبح الانتماء إلى الحزب خاضعا لمعايير خدمة المصالح الشخصيّة  أو الحماية الذاتية للتوقّي من الشبهات والوشايات المغرضة . و هكذا تحوّل الإطارات و المسيّرون إلى بيروقراطيّة حريصة على الحفاظ على ما هو قائم، مقطوعة عن التطلّعات الشعبيّة و تحوّل الحزب الحاكم بالتَالي إلى هيكل لتسيير المواطنين ومراقبتهم ومنفذا وحيدا لمن يبحث عن طموحات شخصيَة أنانيَة.
– أزمة إصلاحه :إن الحزب الحاكم، بانغلاقه داخل منهجه القائم على احتكار ممارسة السلطة، قد وجد نفسه- بحكم اختياراته و ممارساته – في قطيعة مع تطلّعات  الأجيال الجديدة و مطالبات مجتمع عرف تبدّلات كبيرة.إنّ تطوّر الحكم الفردي و فرض ثقافة الحزب الواحد يفضيان إلى نتائج حتميّة حسب قانون شبه كوني. فالحزب الواحد يبدأ بالترويج لخطاب تنموي يدعو  – بحجّة الحفاظ على الوحدة الوطنيّة – إلى ضرورة تعبئة كلّ الطاقات لكن مع تجريم أي صوت ناشز، ثم لا يلبث أن يطوّر الجهاز الأمني لتأطير كامل النسيج الاجتماعي و مراقبته  وتجنيده . وعندئذ تستند السلطة الحاكمة إلى نظام بوليسي يتولّى التجسّس والوشاية  والعنف و التعذيب. ويتواصل الانزلاق ببروز الفساد و تشكل شبكات تنطلق في سباق محموم لنهب الثروة الوطنيّة. ولم يشّّذ تطوّر تونس الحديثة عن هذا المسار. على أنّ التطلّع إلى الديمقراطيّة لم ينعدم، فقد تمّ التعبير عنه باستمرار احتجاجا على الظلم الاجتماعي و القمع السياسي، وقد برز ذلك في النضالات الطلابية و خاصّة خلال  الستينات و في الأزمات الّتي شقّت صفوف الحزب الحاكم و خاصّة أزمتي 1969 و 1971 اللّتين ستفرزان فيما بعد حركة الوحدة الشّعبيّة (1973) بزعامة المناضل أحمد بن صالح  وحركة الدّيمقراطيّين الاشتراكيين (1978) بزعامة المناضل أحمد المستيري. وقد مثلت أحداث  26جانفي 1978 الدامية و انتفاضة جانفي 1984 قطيعة مأسويّة بين السلطة و المجتمع. إلا أنّ تزوير انتخابات 1981 و القمع اّلذي جوبه به نضال النقابيّين من أجل استقلاليّة منظمتهم في السبعينات والثمانينات قد مثّل قطيعة تامّة بين نظام سلطوي لا يزيد  مشروعه على التشبّث بالسلطة و مجتمع يريد أن يتكفّل بشؤونه و يختار مصيره.

التغيير بين الشّعار و الواقع

و قد جاء التغيير الّذي حصل في نوفمبر1987 على مستوى هرم السلطة ليوقع الناس في وهم, ذلك أنّ الخطاب الجديد الّذي جاء يردّد مطالب المجتمع  المد ني  سرعان ما طغى عليه المنطق السلطوي . و لم يستغرق الانفراج سوى سنة كانت خاتمتها إمضاء “ميثاق وطني” لم يحترم قط. و قد أبعدت انتخابات  1989آخر الظنون عن أذهان أولئك الّذين أرادوا تصديق التغيير. ذلك أنّ ظروف إجراءها و نتائجها المتمثّلة في مجلس نيابي وحيد اللّون قد أقامت الدليل على أنّ مهلة السنة لم يوظفها النظام الجديد-القديم إلا في تلميع واجهته المتصدّعة تصدّعا خطرا باستخدام خطاب يصادر مطالبات القوى الديمقراطيّة و يحوّلها إلى شعارات لاغير.
و الحقّ أنّ هذه ليست المرّة الأولى الّتي يستعمل فيها مثل هذا الأسلوب. فبمناسبة أزمة1969   وعلى اثر أحداث قفصة 1980 عمد النظام بسبب تأكّده أنّ ميزان القوى لم يعد  في صالحه، إلى التظاهر بالتّنازل والمراوغة بقبول التحررّ، لكن ما أن مرّت العاصفة حتّى عاد بقوّة إلى عاداته الرجعيّة و السلطويّة القديمة.

دستور يكرّس الحكم الفردي  و قوانين تكبَل الحرَيات

لقد أسّس الدستور التونسي لمركزيّة النفوذ، وهيّأ للحكم الفردي، وجعل من رئيس الدولة شخصا – لا كالبشر- معصوما من الخطأ ، يتحكم في جل دواليب الدولة ، لا يسائله مسائل، و لا يحاسبه محاسب. و بما انّه رئيس الحزب الحاكم – الواحد والأوحد – فهو يعيّن أعضاء الحكومة و يزكّي أو يعيّن مرشّحي مجلس النوّاب ومجلس المستشارين مع العلم أن مهمّتهم – نظريّا – هي محاسبة الحكومة. و بما انّه رئيس المجلس الأعلى للقضاء فهو الّذي يسمّى القضاة و يقرّ ترقياتهم و نقلهم … وهكذا بقى مبدأ التفريق بين السلطات حبرا على ورق … أضف إلى ذلك أنّ الدستور تعرض خلال الخمسين سنة الأخيرة إلى عدد مذهل من التنقيحات الّتي لم تعدّل من مركزيّة النفوذ شيئا، بل زادت النصّ غموضا و تفكّكا نتيجة للطابع الظرفي الّذي طغى عليها.ولعلّ أخطر مغالطة هي التي تخصّ باب الحرّيات، حيث أنّ الدستور ضمنها مجملا و تفصيلا ولكنّه ترك للقانون أمر تحديدها، علما أنّ من يقترح القانون و من يسنّه ينتمون كلّهم إلى فريق واحد و يتصرّفون حسب تعليمات واحدة ، تنزل عليهم من مصدر واحد
و على هذا الأساس فإنّ القوانين الخاصة بالحرّيات العامة و الفرديّة قد وضعت لخدمة الموالين للحزب الحاكم و لعرقلة كل من تشبّث باستقلاليّته و رفض قاعدة الولاء، فكانت النتيجة أن طغى التمييز و غاب العدل بين الناس. و لا فائدة في استعراض ما يقيد أو ينفي – في بعض الأحيان- الحرّيات، فقانون الجمعيّات و قانون الأحزاب و قانون الصحافة و القانون الانتخابي، كلّها تصب في نفس المصب و تسند إلى وزير الداخليّة سلطة مطلقة في قبول أو رفض ما يريد،على أنّ هذه السلطة تصبح استبدادية  بأتمّ معنى الكلمة عندما تعزّز بسلوك إدارة منحازة فإذا بالمواطن فريسة للعجز والإحباط، لا حول له و لا قوّة، غير قادر على أخذ حقّه أو استرداده، بل غير قادر حتى على التظلم في بعض الأحيان.
و في الوقت الذّي كانت فيه كافّة القوى الدّيمقراطيّة تتطلّع إلى مبادرة جديّة في اتّجاه إصلاح ما في الدّستور الحالي من اختلالات، طلعت الحكومة و دون استشارة أيّ طرف من أطراف المجتمع بمشروع صادق عليه البرلمان في جلسة ماراطونيّة وحيدة وعُرض في 26 ماي 2002 على الاستفتاء في ظرف غصّت فيه السّجون بمساجين الرّأي و اختنقت فيه الحرّيات الأساسيّة و جرّمت فيه كلّ أشكال المعارضة.
و لا داعي لذكاء نافذ أو لعلم معمّق في مجال القانون الدّستوري حتّى نتبيّن أنّ  ما سمّي “إصلاحا” للدّستور قد مثّّل في الحقيقة خطوة إلى الوراء في مجال إرساء النّظام الجمهوري الدّيمقراطي الذي يطمح إليه شعبنا و الذي سقط من أجله شهداء 9 أفريل 1938، حيث أنّه:
– يعزّز الحكم الفردي ويمنح لرئيس الدّولة سلطات مجحفة و مطلقة ويمكّنه من حصانة قضائية مدى الحياة.
– يعمّق الاختلال القائم بين السّلطات ويسحب من السّلطة التّشريعيّة والسلطة القضائيّة جوهر وظائفهما ووسائل الدّفاع عن اختصاصاتهما، و كلّ ذلك لحساب رئيس الدّولة الذي يعيّن غالبيّة أعضاء المجلس الدّستوري و جزءا وفيرا من أعضاء مجلس المستشارين – رغم ما لهذا المجلس من وظيفة تشريعيّة – و يصادق على المعاهدات و يضبط موارد الدولة و مصاريفها.
– بإلغاء الفصل 39 يقضي على مبدأ التّداول السّلمي على الحكم، إضافة إلى إيصاده لكلّ أبواب المنافسة الحقيقيّة على منصب رئاسة الجمهوريّة.
إنّ هذا الإصلاح المزعوم يعكس استخفاف السّلطة بالمجتمع، واستبلاهها لذكاء الشّعب ونخبه، ويطرح بإلحاح شديد ضرورة قيام مجلس تأسيسي يمثّل كلّ القوى الحيّة في البلاد ويتولّى سنّ دستور جديد يؤسّس لنظام جمهوري ديمقراطي يتلاءم مع طموحات التّونسيّين والتّونسيّات وينسجم مع تقدّم البشريّة، و بذلك نضع حدّّا للتّلاعب بالدّستور الذي أصبح رداء يخيطه الماسك بالسّلطة على قياسه بما يدعم استفراده بالنّفوذ، ويستغلّه شكلا لإضفاء شرعيّة وهميّة على هذا النّفوذ المطلق في استخفاف تام بالإرادة الشّعبيّة التي هي مصدر الشّرعيّة الحقيقيّة.

من الحزب الواحد إلى الحزب المهيمن

و حتّى تكتمل صورة الحزب الدولة أو الدولة الحزب، فلا بدّ من الإشارة إلى دور الحزب الحاكم في الانفراد بتأطير المواطنين و نشر شعبه على أحياء المدن و القرى والأرياف بشكل يضمن تغطية ترابيّة شاملة ، إضافة إلى شبكة الشّعب المهنيّة الّتي تغطّي الوزارات والإدارات والمؤسّسات والشركات الكبرى والمستشفيات…هذا إلى جانب شبكة لجان الأحياء التابعة للبلديّات والّتي لا يؤمّها سوى الموالين للحزب الحاكم… بهذه الطريقة احتكر الحزب الحاكم كل الفضاءات، و فرض بمساعدة الإدارة و اعتمادا عليها هيمنته على كافة أوجه النشاط السياسي و كذلك سائر الأنشطة الاجتماعية و الثقافيّة والخيريّّّّّة، واعتدى عبر شبكة شعبه المهنية على هياكل المنظمة الشغيلة: الاتحاد العام التونسي للشغل.
إنّه لمن باب السخريّة في مثل هذا الوضع أن نتحدّث عن “مسار ديمقراطي” أو أن نشير إلى ” تعدّدية   سياسيّة” فمجال التحرّك خارج منظومة الحزب الحاكم قريب من الصفر، والاختلاف ممنوع.
التحوّل المفقود و الأزمة الشَاملة
و لئن لم تشهد الفترة المذكورة اصطدامات  دموية  شبيهة بما حدث في جانفي  1978وفي جانفي  1984، فإنَها كانت كلُّها  حافلة بالمحاكمات السياسيّة الّتي طالت كلّ التيّارات بدون استثناء، مع تركيز لم يفتر على الإسلاميّين الّذين دفعوا أكبر ضريبة في بداية التسعينات والذين مازال المئات منهم يقبعون في السجون عدا المحرومين من حقوقهم خارجها. وكأنّ النّظام الجديد قرأ السياسة الماضية الّتي أدّت إلى اهتراء الهرم البورقيبي قراءة عكسيّة  قادته  لا إلى البحث عن إصلاح النظام في اتّجاه” حياة  سياسيّة  متطوّرة تعتمد بحق تعدّديّة الأحزاب السياسية و التنظيمات الشعبيّة ” وانطلاقا من “أن شعبنا بلغ من النضج والوعي ما يسمح لكلّ أبنائه و فئاته بالمشاركة البنّاءة في تصريف شؤونه” “على أساس سيادة الشعب …” ، بل إلى البحث  عن أنجع السّبل لكي يبلغ القمع ذروة الفاعلية تطبيقا لقاعدة ” اقطع يد السّارق قبل أن يسرق”.
ويمكن أن نعتبر أنّ ما يميّز مرحلة ما يسمَى” بالتغيير” هو نتيجة لهذا التمشّي، ويتلخّص في التنامي المطرد للهاجس الأمني والمعالجة الأمنيّة لجلّ القضايا ذات الطابع السياسي وتضخّم الجهاز الأمني بنسب لم تبلغها البلدان الغنيّة. وفي المقابل – وكأنّ الهدف هو إسدال الستار على الواقع القمعي و التجاوب مع نغمة العصر- تركز الخطاب الرسمي على الديمقراطيّة و الحرّيات، و بعث النظام في وزارات معيّنة هياكل مختصّة بما يتعلّق بحقوق الإنسان، وهو ما شاعت تسميته ب “بيروقراطية حقوق الإنسان “.

خيارات اقتصادية تؤكد القطيعة بين الدولة المتحزّبة والمجتمع

إنّ التحوّل الذي وقع في قمّة هرم الدّولة لم يغيّر المعطيات رغم استراحة السّنة الأولى. فقد تواصل احتكار السّلطة واحتكار الفضاء العمومي من طرف الحزب الحاكم، وفي نفس الوقت غابت الممارسة الدّيمقراطيّة في صلبه، وهو ما أدّى إلى تقلّص وزنه السياسي و الإيديولوجي من جهة، و إلى تدهور  شرعيّة الدّولة الملتحمة به من جهة أخرى. أضف إلى ذلك انسياق الدولة في اختيارات اقتصاديّة تندرج بدون قيود في منطق العولمة و قانون السّوق و برامج الإصلاح الهيكلي، و هي اختيارات غير شعبيّة عمّقت الفوارق الاجتماعية و كرّست تراجع الدّولة عن أداء دورها التعديلي في دفع الحركيّة الاجتماعية و الاقتصادية وفتحت المجال لبعض الفئات لتسخير السّلطة من أجل خدمة مصالح ضيّقة على حساب الصَالح العامَ. ولقد تسبَبت تلك السياسة القمعيّة من جهة و هذه الخيارات الاقتصادية من جهة أخرى في :
– تدهور الوضع الاجتماعي خاصّة بالنّسبة إلى العمّال والفلاحين والتّجار الصغار،و تقلّص حجم الطبقة الوسطى والحماية الاجتماعية وانتشار البطالة وخاصة في أوساط الشباب من حاملي الشهادات الجامعية والمهنيّة.
– تدنّي الاستثمار الخاصّّ نتيجة للتحوّلات العالميّة و ما فرضته من ضغوطات جديدة، و كذلك نتيجة عدم احترام القوانين وغياب الشفافية.
–    توظيف الموارد في قطاعات هشة أو مهمّشة نتيجة غياب مشروع استراتيجي متكامل، يوضح آفاق التنمية ويركّز على احترام المؤسسات وقوانين اللّعبة ويمكّن من تعبئة ديمقراطيّة لكل الطاقات. وقد أدّى كلّ ذلك إلى تعميق القطيعة بين الدولة والمجتمع وتهرئة شرعيّة الدولة.
المعـــارضة بين القمع والتهميش
إنّ القراءة الموضوعيّة لوضع المعارضة تكشف وجود مفارقة تستحقّ التحليل واستخلاص الدّروس، فهي- رغم تنوّعها و توسّع رقعتها ورغم ما قدّمته طوال عقود من النضال من تضحيات جسام- لم تتمكن من بناء ذاتها واستقطاب جماهير عريضة والارتقاء إلى مرتبة البد يل السّياسي القادر على مواجهة الأوضاع وفتح آفاق جديدة للمجتمع.
إنّ هذه الهشاشة تعود إلى ممارسات السّلطة من جهة وتصرّفات المعارضة من جهة أخرى، فالسلطة برمجت لتشتيت المعارضة بشتّى الأساليب، مستعملة الإغراء في اتّجاه بعض الرّموز الّذين استهوتهم المناصب، ومستعملة المضايقة والمحاصرة لفرض منطق الولاء والتأييد، وقد نجحت نسبيّا في بث التّفرقة  وإثارة طرف ضد آخر. كما فرضت لغة التمييز بين التّنظيمات بالاعتماد على تصنيف القانوني وغير القانوني، الوطني وغير الوطني، المعتدل و المتطرّف، البرلماني وغير البرلماني…” وقد أدّى ذلك إلى تحويل الصّراع إلى ساحة المعارضة ومكّن السلطة رغم ما تواجهه من أزمات وما تعانيه من هشاشة من التحكم في الّلعبة والظهور بمظهر من ليس له بديل .وقد حصل هذا في إطار مخطّط استهدف  إخضاع  المنظّمات المهنية و في مقدّمتها الاتحاد العام التونسي للشغل و ذلك من أجل شلّ الحركيّة الاجتماعية والسياسيّة و قطع الصلة بين المنظّمات الجماهيريّة  والمكوّنات الأخرى للمجتمع المدني.إلاّ أنّ مسؤولية السلطة لا تكفي لتفسير انسياق فصائل من المعارضة بهذه السهولة في مخطّطاتها، و لعلّ الأسباب الحقيقيّة لذلك تعود أساسا إلى:
– خضوع العد يد من فصائل المعارضة والمنظَمات المهنيّة و الجمعيّات إلى منطق السلطة و إرادتها  و تحرّكها الانتهازي من أجل كسب المواقع، و هذا ما حوّلها إلى مجرّد هياكل مسيّرة  طبقا للنموذج السّائد في مؤسّسات  الدولة و أفقدها بالتالي استقلاليتها و مصداقيّتها.
– غياب الديمقراطيّة داخل هذه المكوّنات الأساسيّة للمجتمع المد ني، و هو ما شكّل عاملا جوهريّا في فقدانها استقلاليتها إزاء السلطة ، وهذا رغم تغنّي بعض هذه المكوّنات بشعار  الديمقراطيّة  ظاهريّا، و قد أدّى هذا إلى تهميش  الديمقراطيّة  كنظام سياسي وسلوكي يمكّن الأفراد من التعايش الجماعي داخل المجتمع الواحد رغم الفوارق واختلاف الآراء وتناقض المصالح ويقوّي لديهم مشاعر الانتماء  والتضامن والتكامل والوفاق الضروري لكلّ نهضة حضاريّة.
–    اعتماد بعض أحزاب المعارضة، في اتّجاه تحوّلها إلى مجرّد جمعيّات غير حكوميّة على خطاب ينفي كلّ أرضيّة إيديولوجيّة ويعتمد تمشيا شعبويا لا يتلاءم مع مقتضيات المرحلة والتحوّلات الجارية، ويركّز على الجوانب السياسيّة والحقوقيّة على حساب مشروع اقتصادي واجتماعي واضح المعالم  وقادر على بلورة آفاق  جديدة.

و هكذا يتّضح من خلال هذا القسم الأوّل :

1- إنّ للنظام التونسي طابعا تسلّطيا  تفاقم مع مرور الزمن، وإنّ هذا الطابع شمل النصوص القانونيّة الّتي وضعت للحدّ من الحرّيات، كما شمل سلوك الإدارة الّتي تشابك جهازها مع جهاز الحزب الحاكم، وهو ما أدّى إلى مفهوم “الدولة الحزب” أو “الحزب الدولة”

2- إنّ السنوات الثماني الأخيرة – وفي إطار استمرارية عقلية الحزب الواحد –  تميّزت بطغيان الهاجس الأمني، فسعى النظام إلى محاصرة كلّ القوى الحيّة وتهميش التنظيمات وفي مقدمتها بالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل.

3- إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل – و في  فترة حرّمت فيها التّعدّيّة الحزبيّة- شكّل رغم ما تعرّض له من أزمات و انقسامات مفتعلة،  قوّة توازن حدّت من هيمنة الحزب الحاكم، وقوّة تفاوض كان لها تأثيرها على السياسة الاقتصادية والاجتماعية إلى حدود منتصف السبعينات، إلاّ أنّ انغلاق الحزب الحاكم و تفاقم الحكم الفردي دفع إلى  أحزاب جديدة تحمل مشاريع بديلة. ولكنّ هذه الأحزاب ارتطمت بجدار القمع الّذي حالت شراسته دون التحامها بجماهير الشّعب.

4- إنّ غياب آليّات الديمقراطيّة السياسيّة في إطار خيار التحرّر الاقتصادي، أدّى إلى خوصصة الدولة وما يؤدّي إليه ذلك من احتكار وانتشار خطير للفساد.

II- التكتّل: اختياراته في معالجة الأزمة

ظروف التأسيس وتوحيد القوى الديمقراطية

إنَ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات لم ينشأ من عدم، وإنّما هو تيّار وطني متجذّر يستمدّ شرعيّة وجوده من تاريخ الشعب التونسي، هذا التاريخ الذي صنعته النضالات الشعبيّة من أجل الحفاظ على الكرامة والحرّية والهوية.
والتكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات الّذي تأسّس في 9 أفريل1994 يعتزّ بكل من ناضل  من أجل الاستقلال الوطني وبالشهداء الّذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن. و إكبارا لتضحيات هؤلاء المناضلين البررة وللمبادئ التي كافحوا من أجلها، فإنَ التَكتُل يعبّر منذ تأسيسه عن إصراره على القطيعة مع نظام الحزب الواحد الّذي أفضت هيمنته إلى مصادرة الحريات واحتكار الفضاءات العامة ووسائل الإعلام الجماهيري وتجريم الرّأي المخالف والحيلولة دون بروز أي سلطة مضادة وبالتالي إفراغ المواطنة من محتواها.
و بناء على هذه الأرضية النَضالية  كان من الطبيعي أن تتواجد ضمن التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات قوى كانت نشيطة في تنظيمات أخرى وخاصة منها حركة الديمقراطيّين الاشتراكيين وحركة الوحدة الشّعبيّة والرّابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل وقد صمدت من تلك المواقع في وجه الاستقطاب و التهميش  والإقصاء، تلك السَياسة  الّتي طالما مارستها الدولة – الحزب.و هذه القوى نفسها كانت – حتّى قبل تأسيس التكتّل الديمقراطي من أجل العمل  والحرّيات – قد سعت إلى لمّ صفوف كل الرجال و النساء المتعطشين إلى الحرّية  و الديمقراطية و التقدّم، و كان ذلك في مناسبتين بارزتين:
الأولى كانت غداة الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة لسنة 1989 الّتي أسفرت عن مجلس نيابي وحيد اللّون و كرّست استقطابا ثنائيّا للفضاء السّياسي كان وخيم العواقب، حيث مثل التحالف الثلاثي بين حركة الديمقراطيّين الاشتراكيين و حركة الوحدة الشعبيّة و الحزب الشيوعي  أملا حقيقيّا، ووجد صدى شعبيّا هاما، لكنّ السلطة الّتي أزعجها هذا التحالف قد عملت كلّ ما في وسعها لإعاقة هذا المشروع ،مستغلّة التّقلّبات الانتهازية لدى بعض القياديّين. ولو قدّر لهذا المشروع أن يتحقّق لكانت هذه القوّة الثالثة قد ساهمت، بالتأكيد في الحدّ من استغلال ما يسمّي بـ”الخطر الأصوليٍ” وتجنّب البلاد النتائج السّيئة الّتي ترتّبت على الانزلاق في اتجاه الحلّ الأمني.
و الثانية كانت  في  9أفريل  1993 حيث جاء بيان المائتين الّذي أصدره  ودعا إليه أوائل المناضلين الّذين سيؤسّسون – بعد عام من ذلك التاريخ- التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات. وقد تمكّن هذا البيان، رغم أجواء التوتّر والقمع الّتي كانت سائدة عندئذ من تجميع المناضلين والمناضلات المؤمنين بضرورة توحيد القوى الديمقراطيّة المعارضة المقصاة من كلّ حوار والمحرومة من أي تنظيم معترف به في إطار استراتيجية تهدف إلى تهميش المعارضين الحقيقيّين و إلى احتواء مكوّنات المجتمع المدني الواحد بعد الآخر.
و كنتيجة لهذا الإيمان والاقتناع، فانّ حسّاسيات مختلفة تنتمي في الأصل إلى اليسار الإصلاحي و اليسار الراديكالي و الحركة النقابيّة و الحركة الجمعياتيّة قرّرت أن تنظم نفسها في شكل حزب سياسي. ولذلك فإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات تجسيد للتنوّع باعتباره خيارا سياسيّا، و للحوار الديمقراطي كأسلوب للتحكم في الاختلافات. ذلك أنّ رفض الحق في الاختلاف و انعدام الحوار الديمقراطي هما اللّذان دفعا العديد من التنظيمات السياسية إلى ممارسات إقصائيّة أفضت في النهاية إلى فرقعتها وتهميشها.

التنوّع وحق الاختلاف
وإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات إذ يرفض المفهوم المغشوش المعبّر عنه بـ “الديمقراطيّة الوفاقيّة”، والّذي استعمل للّتغرير والخديعة، وعزّز هيمنة الحزب الحاكم مقابل بعض الفتات الّذي تمّ التنازل عنه لتنظيمات معترف بها، خاضعة وموافقة، نقابيّة كانت أو سياسيّة أو جمعياتيّة – لا نيّة له إطلاقا في غضَ النظر عن التناقضات القائمة في كل المجتمعات – والمجتمع التونسي لا يشذّ عن هذه القاعدة – سواء أكانت تناقضات إيديولوجيّة أم كانت مؤسّسة على اختلاف المصالح. وعلى العكس من ذلك، فإنّ خيار التكتّل هو أن تؤخذ هذه التناقضات بعين الاعتبار وأن يكون التعامل معها عبر الحوار الديمقراطي الّذي يعدّ وسيلة لا بديل عنها لتحديد اختيارات مشتركة ومعادلات ثابتة كفيلة بتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لفائدة الشعب التونسي وقواه المنتجة.

وإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات لمقتنع بأنّ تونس – بفضل ما يتّصف به شعبها من تجانس اجتماعي وثقافي وعرقي- تتمتّع بمقوّمات أساسيّة تمكّنها من التعامل مع النزاعات عبر التفاوض بين شركاء ذوي مصداقيّة وتمثيليّة.

التكتُّل حركة وطنية تقدُّمية

إنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات عميق التجذّر في التوجه التقدّمي الّذي دعا في كلّ الأوقات إلى تحرّر وطني يكون في خدمة التّحرّر الاجتماعي.
وهو يهتدي في هذا التمشّي بمبدأين:

1- إنّ النظام الّذي يفرض على الشعب بالقوّة ويرفض بكلّ الوسائل إشراكه في تصريف أموره هو نظام محكوم عليه قطعا بالفشل.

2- إنّ أي تنمية اقتصادية واجتماعية مستديمة لا يمكن أن تتحقّق في إطار نظام سياسي ليس فيه للشعب أيّ رأي، ويعامل فيه المواطن معاملة القاصر.

وقد هدى إلى هذه  الطريق الصائبة  رجال عظام أمثال محمد علي الحامّي والطاهر الحدّاد وفرحات حشّاد. من ذلك أنّ آخر مؤتمر للاتحاد العام التونسي للشغل انعقد في حياة فرحات حشاد أي قبل الاستقلال، قد أكَد أنّه لا معنى للتحرّر الوطني إن لم يحقّق التحرّر الاجتماعي للشعب بما يعنيه من تخلص من التبعيّة وتغيير العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والعلاقات الثقافيّة. و على هذا الأساس فإنّ التّكتّل يتنزّل ضمن الامتداد التاريخي للحركة الفكريّة التّنويريّة التّقدّميّة والامتداد التاريخي الشرعي للنّضالات الاجتماعية من أجل المساواة و العدالة الاجتماعية؛ كما أنّه يعتبر نفسه امتدادا تاريخيّا شرعيّا للنّضالات السّياسيّة الوطنية من أجل تحقيق سيادة القرار الوطني وإرساء دعائم الجمهوريّة والدّيمقراطيّة وسيادة الشّعب والحريّة الفردية والجماعيّة نصّا وممارسة.
وانطلاقا من نظرته إلى الإنسان –المواطن، فإنّ التّكتّل يعتبر أنّ كلّ تونسيّ وتونسيّة جدير بكلّ مقوّمات الكرامة الإنسانيّة التّي ترتكز على مبدئي الحريّة كموقف والمسؤوليّة كسلوك.
وانطلاقا من مشروعه المجتمعي فإنّ التّكتّل يناضل من أجل مجتمع التقدّم والعدل والمساواة والتكافل بين الأجيال وبين الجهات، مجتمع تعدّدي يسود فيه حقّ الاختلاف وتكرّس فيه حقوق الإنسان، وتنتفي فيه كلّ أشكال التّحجّر الفكري والدّغمائيّة وكلّ أشكال الحيف الاجتماعي والإقصاء والتّهميش وكلّ أشكال التّبعيّة والتّذيّل وكلّ أشكال الاستبداد والقمع والتّرهيب والاضطهاد.
النضال من أجل الدَيمقراطية الحقيقية
إنّ الشعب التونسي لن يقبل إطلاقا استغفاله إلى الأبد و نحن في التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات نميّز تمييزا تاما بين التحرّريّة السياسيّة الظرفية والديمقراطيّة.
فالتحرّريّة السياسيّة الظرفية نمط من الحرية المراقبة، كثيرا ما تلجأ إليه أنظمة متسلّطة تحت وطأة الضغوط لتصبغ على سياستها ديمقراطيّة ظاهريّة، حيث تعمد تحت تأثير الضغوط الظرفيّة إلى توسيع فضاءات الحريّة، إلاّ أنّ مداها والتحكّم فيها وتطوّرها يبقى رهين إرادتها حتّى تستطيع أن تتراجع عنها عندما تصير من جديد قادرة على ذلك؛ أمّا الديمقراطيّة فإنّها تحيل على مسار بديل للسلطويّة والحكم المطلق والاستبداد وعدم احترام سيادة الشعب، وعلى قواعد وإجراءات واضحة لممارسة المواطن؛ تكون واضحة وثابتة إذ يكرّسها دستور البلاد وقوانينها.
وقبل أن نتجمّع لتأسيس  التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات، ناضلنا من أجل ديمقراطيّة حقيقيّة ورفضنا منذ البدء المفهوم السّخيف  للديمقراطيّة الوفاقيّة، هذه الطبخة المغشوشة التي لم تؤدَ إلاّ إلى استفحال هيمنة الحزب الواحد والحكم الفردي مثلما تؤكّده  النتائج الحاصلة.
إنّ المناعة الّتي اكتسبناها من تجارب الماضي تجعلنا نرفض أي خديعة قد تلجأ إليها السلطة الحاكمة- كعادتها- لربح الوقت وتزيين المظهر دون التصدّي لأسباب الأزمة الّتي يقتضي حجمها وفداحتها حلولا جذريّة جادة ودائمة. إنّ الساعة ليست ساعة مماطلات وحلول منقوصة وينبغي بذل كل ما يمكن حتّى لا يتكرّس عنف الدولة  ويشجّع على الّلجوء إلى العنف المضاد بسبب غياب إصلاحات حقيقيّة. ونحن في التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات نناضل من أجل تغيير هادئ، ونندّد بالعنف مهما كان شكله ومأتاه. ونحن مقتنعون بأنّ الديمقراطيّة  لا يمكن أن تكون إلاّ ثمرة النضال السياسي بفضل تعبئة الطاقات الشعبيّة ويهدف إرساء مصالحة وطنيّة حقيقيّة.
إنّ التباين الّذي نشهده اليوم بين ما حقّقته تونس من تطوّر اجتماعي كان من المفروض أن يؤهلها للالتحاق بالدول الديمقراطيّة، و بين ما يعانيه نظامها السياسي من تخلّف وتصلّب يجذبانها إلى الوراء، هو تباين ليس وليد اليوم حيث يجد جذوره -نصا وممارسة- في المسار العام الّذي اختاره النظام الحاكم منذ الاستقلال.

الأرضيّة السياسيّة و الفكريّة للتَكتُّل

خيار الاستقلالية و الديمقراطيّة
إنّ الدور الطبيعي لحزب معارض هو أن يطرح على نفسه موضوع التداول على السلطة. وفي سبيل تجسيم هذا الطموح المشروع فانّه يعمل جاهدا على بلورة مشروع سياسي و اقتصادي واجتماعي متكامل وعملي، يسمح بفتح آفاق جديدة أمام الشعب و يمكّن من استقطاب قواه الحيّة و التفاف الجماهير العريضة حوله بما يجعله  يتجذّر  في المجتمع.
وحتّى يستطيع حزب معارض أن يضطلع بهذا  الدور  الطبيعي و المشروع، فلا بدّ له من تجسيم شرطين أساسيّيْن في أسلوب عمله :
أوّلهما القطع  مع التّذيل للسلطة و رفض الانسياق في مناورات تورّطه فيها انطلاقا من الخوض في قضايا جزئيّة ، عرضيّة و ظرفيّة ، بحيث يصير الحزب السياسي المعارض  مجرّد  تنظيم يعيش في ظلّ السلطة القائمة لا طرفا سياسيّا قادرا على بلورة استراتيجيّة متكاملة و اتّخاذ مواقف واضحة في التعامل مع بقيّة الأطراف السياسية و فيما يخصّ القضايا الجوهريّة المطروحة على حاضر البلاد و مستقبلها.
أمّا الشرط الأساسي الثاني فهو  تجذ ير الديمقراطيّة  في صلب الحزب حتّى لا تبقى شعارا موجّها إلى الرأي العام قصد استهوائه وكسب عطفه، وحتّى تكون  الديمقراطيّة دعامة ومناعة تضمن حيويّة الحزب وفعاليّته وتجذّره وتدفع إلى تطوّره واستمراره.
لقد انتهى الأمر بعديد الأحزاب  الدّيمقراطيّة  التقليديّة  – سواء كانت معترفا بها أم لا – إلى أن تقزّمت وتفرقعت من الداخل و تشتّتت، لأنّها قامت على منطق الزعاماتيّة و الولاء لمسؤولين سرعان ما يحوّلون التأشيرة الّتي يحصلون عليها إلى ما يشبه الرّصيد التجاري يستغلُّه  المسؤول الأوّل ليحتكر الخطاب و يحدّد  المواقف ويقصي كلّ صوت مخالف، فيصبح بهذا الشكل لقمة سائغة في فم السلطة القائمة و تصبح هذه دعامته  و ملجأه الوحيد .
أمّا الأحزاب غير المعترف بها فإنّها كثيرا ما تلتجئ، تحت وطأة القمع المسلّط عليها من قبل السلطة، إلى تجذ ير  خطابها و ممارستها و تغليب الشّعار على المضمون و رفض الآخر وإقصاء كلّ صوت مشاكس في الداخل، فيؤدّي هذا السلوك إلى نفس النتائج الّتي تصل إليها بعض الأحزاب المعترف بها.
لكلّ هذه الأسباب فإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات حزب يقطع مع النمط التقليدي الّذي بنيت على أساسه أحزاب سياسيّة أخرى، فالتكتّل يقرّ أن تتعايش في صلبه ومنذ نشأته تيّارات و حساسيّات سياسيّة مختلفة، تجمع بينها أرضيّة أخلاقيّة وإيديولوجية وسياسيّة واقتصادية و اجتماعية. ويعتبر التكتّل أنّ ممارسة حقّ الاختلاف في إطاره عنصر إثراء  و تطوّر و أنّ  الجد ل الفكري الديمقراطي هو الضمان الأساسي للوفاق الحقيقي و التّماسك الفعلي و الإبداع السياسي و الحضاري. وعلى  هذا الأساس فإنّ التّكتل يحرص على هذا الاحترام المتبادل بين كلّ الحساسيّات وعلى تمثيلها في كلّ مستويات هياكل الحزب، وهو بالتالي يحرص على نبذ الإقصاء و توفير الآليّة  الداخليّة من أجل ضمان حقّ الاختلاف و تكريس  ذ لك  على أرض الواقع.

التوجّهات الاقتصادية و الاجتماعية و الثّقافيّة للتَكتُّل

أ- على الصعيد  الإيديولوجي  و السياسي :

إنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات يناضل من أجل بناء مجتمع مستقل عادل وديمقراطي، ويقرّ بالعمل كأساس للتقدّم، وبالحرّية كركيزة لممارسة المواطنة وتفجير ملكة الخلق والإبداع ويعمل على بناء  دولة  القانون التّي تسهر على تعديل الدورة الاقتصادية بما يضمن حقوق سائر الأطراف المساهمة فيها، وعلى بناء علاقات جديدة مع المجتمع بكلّ مكوّناته، وهي علاقات لا تنفي وجود الصراعات وتناقض المصالح في صلب المجتمع، بحيث يكون دور الدولة هو الحرص على التوفيق بين سائر الأطراف قصد  دفع عجلة تنمية مستقلّة متوازية وعادلة.
وعلى هذه الأسس فإنّ الحزب يناضل سياسيّا من أجل تجسيم طموحات كلّ الشغالين بالفكر والساعد، وكلّ المستثمرين الذين يعملون ويبدعون من أجل تنمية اقتصاد البلاد وضمان تقدّمها ومناعتها حيث أنّ مجهودات العمّال بالفكر والساعد ومجهودات المستثمرين الحريصين على تنمية البلاد بقدر حرصهم على مصالحهم الخاصّة ينبغي أن تلتقي وتتكامل في مشروع بناء المجتمع المستقل والعادل والديمقراطي الّذي ننشده جميعا.
وفي سبيل تجسيم هذه الطموحات على أرض الواقع، فإنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات يحرص على التعاون والتحالف مع كلّ التياّرات السياسيّة الّتي تعتمد إصلاحات واختيارات عقلانيّة عمليّة تلتقي مع اختياراتنا  الإستراتيجية أو تساهم و لو نسبيّا في ضمانها و تكريسها.
وفي المقابل فإنّ حزبنا يرفض أي تنسيق أو تعاون مع التيّارات الّتي تعتمد الشّعارات والدغمائيّة والشعبويّة ودغدغة المشاعر الفئويّة أو الدينيّة أو العصبيّة وما إليها كبرامج عمل ومشاريع قصد افتكاك السلطة في مرحلة أولى والتسلّط على المجتمع في آخر المطاف، كما يرفض حزبنا من ناحية أخرى التعاون أو التحالف مع كلّ الحركات والمنظمات المنادية لإقامة مجتمع ليبيرالي باسم قوانين سوق وهميّة تكرّس الفوارق وتعمّقها في المجتمع وتعتمد الاستغلال للثراء الفاحش وتعمل من أجل الحفاظ على الأوضاع السائدة و ترفض الإصلاح حفاظا على مصالح فئويّة ضيّقة تحول دون دفع التنمية الحقيقيّة ونهضة المجتمع.

ب – على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي:
إنّ التمسّك باختياراتنا الإيديولوجية والسياسيّة يعني أنّ حزبنا يعمل على المستوى الاقتصادي على مقاومة كلّ المحتكرين والمتمعّشين من مجهودات الشغالين بالفكر والساعد والمتذيلين لمصالح أجنبيّة  تتناقض مع اختياراتنا الإستراتيجية والمتسبّبين في الفساد الاقتصادي وتهميش حركة التنمية.
و إنّ إيمان الحزب بالعمل كأساس لتطوّر المجتمع وبالحرّية كوسيلة لممارسة المواطنة وتفجير ملكة الخلق و الإبداع وإنّ إيماننا بمبدأ بناء دولة القانون لهي اختيارات جوهريّة تؤكد الترابط العضوي بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإنّ تجسيم هذه الاختيارات يمرّ عبر إعادة بناء العلاقات بين  الدولة والمجتمع  المد ني والمحيط الجهوي والعالمي من ناحية وعبر إعادة النظر في دور الدولة  ذاتها من ناحية أخرى:

 إعادة بناء العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني والمحيط الجهوي والعالمي:
يعتبر التكتّل الديمقراطي أنّ التوجه المطلوب ينبغي أن يعتمد على المرتكزات التّالية:
– إعادة الاعتبار لسائر أطراف المجتمع  المد ني  و أن تكون  الدولة  بكلّ أجهزتها حريصة في هذا الصدد على إعطاء  الدفع  الضروري  لدور  تلك الأطراف في المجتمع و تعميقه وذلك  باحترام استقلاليتها و احترام القوانين المنظمة للمجتمع و بتوفير الشروط اللاّزمة لإعادة هيكلة العلاقات بين مكوّنات المجتمع عبر حوار ديمقراطي يضمن التعاون و الوفاق، فالدولة  ينبغي أن تكون ضامنة لحركيّة المجتمع لا وصيّة عليه و معوّضة له، لأنّ ذلك هو وحده الكفيل بضمان شرعيّتها ومصداقيّتها  واستمرار دورها في المجتمع.
– توفير أفضل ظروف الأداء للمؤسّسة الاقتصادية بما يجعل من العمل قيمة أساسية ويعمّق التنمية مثل إعادة بناء العلاقات المهنيّة داخل المؤسّسات المنتجة في مختلف القطاعات، وبينها وبين القطاع المالي، و إعادة بناء العلاقات بين القطاع الخاص والقطاع العام وتحديد دور الدولة ومكانة السوق وآليات انصهاره في مشروع استراتيجي متكامل.
– إعادة هيكلة الدولة بما يحدّد دورها على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي في إطار علاقاتها مع المجتمع و محيطها القريب و البعيد، و يمرّ ذلك بالأساس عبر:
* لا مركزيّة حقيقيّة، تعطي للجهات أو التجمعات الجهويّة صلاحيّات حقيقيّة في ميدان النهضة الوطنيّة .
* بناء تجمّع جهوي مغاربي باتت تفرضه اليوم التحوّلات العالميّة الجارية و الضغوط الخارجيّة المتعدّدة أكثر من أيّ وقت مضى. وهذا التمشّي من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة للتنمية بالاعتماد على توطيد العلاقات جنوب/جنوب، كما من شأنه أن يساعد على مواجهة جماعيّة للضغوط الخارجيّة وأن يعين على إقامة علاقات  عادلة مع المجموعة الأوروبية عبر إعادة النظر في اتفاق الشراكة الحالي.
دور الدولة: منطلقاته وأولويَاته
إنّ إعادة النظر في دور الدولة يتنزّل في إطار المقوّمات الّتي تنبني عليها العلاقات بينها و بين المجتمع و المحيط الإقليمي والعالمي، وهو يعتمد المنطلقات التالية :
– عدم الاستسلام لآليّات سوق وهمية وللمنطق الاقتصادوي الذي يفصل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي ويقود في آخر المطاف إلى هيمنة الاقتصاد على حساب الجوانب الأخرى.
– رفض الخضوع لآليّات العولمة وضغوطها وحركيّاتها وخلق الآليّات الكفيلة بتحقيق ذلك على أرض الواقع و على مستوى الاختيارات.
و إنّ التركيز على إعادة النظر في دور الدولة ينبغي أن  يأخذ  بعين الاعتبار الأوْلويات التّالية :
– الحرص على تعميق دور الدولة في المسائل الّتي تخصّ تجديد قوّة العمل و الّتي   تتمثل أساسا في التّشغيل و الحماية الاجتماعية والتعليم والصحّة والتوزيع وإعادة التوزيع وإعادة بناء علاقات مهنيّة واجتماعيّة تدفع كلّها بحركة الابتكار والخلق وتنهض بالمؤسّسات.
– ضرورة الحرص على تعميق دور الدولة في نحت سياسة صناعيّة توضح الآفاق و توسّعها قصد فتح مجالات جديدة لاستثمار المستثمرين، وتعتمد بناء ميزات تفاضليّة ديناميّة قائمة على البرمجة الإستراتجيّة وترتكز بالأساس على تكوين الكفاءات ودفع البحث العلمي والتّحكم المعرفي والتكنولوجي و تكثيف العلاقات بين الأطراف والقطاعات طبقا لأهداف واضحة و لآليّات فاعلة.
– التركيز على الإصلاح الزّراعي  طبقا لبرامج استراتيجيّة تعالج بجدّية القضايا الأساسيّة الّتي تهمّ الأوضاع العقّاريّة والمياه والتكوين والبحث في الميدان الفلاحي والهيكلة النسبَية للأسعار الّتي تضمن نهضة القطاعات .
– إعادة النظر في الإصلاح الجبائي و في توظيف الموارد العموميّة طبقا للأوّلويّات الّتي أسلفنا ذكرها و عبر هياكل ممثّلة و حوار ديمقراطي .

ج- على الصّعيد الثقافي:
إنّ الثّقافة محتوى فكريّ وحضاريّ وفنّي، ووسيلة تلتقي مع التعليم والإعلام في تكوين المواطن الرّاشد ضمن مجتمع واع متضامن متطلّع إلى التّقدّم. و إذ تخاطب الثّقافة وجدان الإنسان و عقله و تنمّى حسّه وذوقه وكيانه فهي تسهم في تثبيت بناه الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية؛ وبالتالي فإنّ الثقافة في أعمق معانيها تتحوّل إلى عقليّة جماعيّة و سلوك مجتمعي معبّر عن هويّة وانتماء حضاري في تفاعل دائم مع معطيات التّقدّم في مختلف مظاهره.
و إذا كانت الثّقافة بهذا المعنى مسألة أساسيّة في بناء الفرد و المجتمع فإنّنا نلاحظ اليوم غياب مشروع ثقافي في السّياسة المتوخّاة ببلادنا. فالمواطن التّونسي يعيش حالة من التّهميش الثقافي تقوم على الانبهار بالمشروع الثقافي الغربي و تقليده بانتقائيّّة لا تتوقّف إلاّ عند مظاهره السّلبيّة و لا تكترث بما يدفع فيه  إلى تأسيس قيم المواطنة، فيستهلك دون تبصّر مختلف المظاهر السّطحيّة لذلك  المشروع الثقافي الغربي مع احتقار متزايد لتراثه الذّاتي الّذي لم تبق منه في مجتمعنا سوى جوانبه الفلكلوريّة.
و إزاء هذا الوضع فإنّ التّكتّل الدّيمقراطي من أجل العمل و الحرّيات يؤمن بأنّ الخروج الفعلي من التّخلّّف لا يكون إلاّ عن طريق مشروع ثقافي  يقطع مع ثقافة الهزيمة و التّبعيّة و التّقليد الأعمى لثقافات الغير و يرسي لثقافة بناء الذات الحضاريّة و ثقافة الخلق و الإبداع الحقيقيّين..
إنّ التّّشبّث بجذور ثقافتنا و تثبيتها لا يتنافى مع ضرورة التّفتّح على الحضارات الإنسانيّة الأخرى، بل إنّها من الرّوافد التي تغذّي المدّ الحضاري العربي الإسلامي و تحول دونه و أخطار التّهميش و التّقهقر.
كما يعتر التّكتل الدّيمقراطي أنّ دور الثّقافة مستمرّ مدى الحياة، وهو حرص متواصل على صيانة القيم بالتّطلّع  إلى الثّقافات الإنسانيّة الأخرى يحقّق الإنسان التّونسي من خلاله المعادلة بين الأصالة ومواكبة تطوّر الحياة العصريّة. وعلى هذا الأساس فإنّ الثّقافة في مفهومنا ليست بضاعة تجاريّة تستغلّّها السّلطة حسب الظّرف، تارة لكسب رضا نخبة محظوظة غير مؤمّنة ضدّ أخطار الانبتات، وطورا لمجاراة أهواء شعبويّة لا علاقة لها بالتّراث الأصيل و الذّوق السّليم.
إنّ الثّقافة ضرورة ديمقراطيّة باعتبارها حقّا مشاعا يتساوى فيه كلّ أفراد الشّعب مهما كانت مستوياتهم الفكريّة والاجتماعية ويحقّقون من خلاله شخصيّتهم المجتمعيّة المتوازنة، وبهذا المنظور فإنّ للثّقافة دورا جوهريّا في نحت المجتمع المتلاحم المتآزر، ذلك أنّ قيم حرّية التّعبير والخلق والابتكار تكوّن الأرضيّة المثلى الّتي تقوم عليها ثقافة الكدّ و البذل والاستحقاق والّتي تؤدّى بهذا الشّكل إلى بناء مجتمع التّكافل والتّضامن الحقيقي لا مجتمع التّواكل والصّدقة.

من أجل مجتمع المواطنة
إنّ تجاوز  الأزمة  العميقة بين السُّلطة و المجتمع يتطلب إصلاحات جذريّة تندرج ضمن مشروع بديل متكامل يضع أسس نظام ديمقراطي عصري يفرّق بوضوح بين السلطات، ويضمن استقلال القضاء، و يجعل من التداول على الحكم أمرا عاديّا لا يمليه سوى الخيار الحر للشعب، عندها يسترجع المواطن الكلمة ليشارك فعلا في بلورة الخيارات الأساسيّة للبلاد و من ثمّة في تسيير شؤونه بنفسه بعيدا عن الوصاية و الولاء المفروض.
إنّ طموحنا في التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات هو أن تكون تونس وطن الحرّيات والديمقراطيّة، وأن يكون لها مشروع تنموي وثقافي وتربوي جريء يرجع التفاؤل ويبعث الأمل في المستقبل و يحيي الروح الوطنيّة، ويخرج قوانا الحيّة من الاستقالة ويعبئها  لمواجهة الرداءة في كلّ الميادين، ويبرز الوجه الحقيقي لشعبنا الغني بالكفاءات والقيم النضاليّة من أجل التحرّر و الديمقراطيّة  و العدالة. و إنّ تجسيم هذا الطموح يستلزم من القوى  الديمقراطيّة  القطع الواضح والحازم مع نظام الحزب الواحد الّذي كبّل طاقات المجتمع و شلّ  قدراته، وجعل من المؤسّسات والتنظيمات هياكل جامدة تنتظر الأوامر الفوقيّة لتتحرّك وتطبّق.لقد أصبح من الأكيد أن يجتمع كلّ المتشبّثين بحقّ المواطنة حول رفض نشيط لكلّ أشكال”الديكور”.
إن الواجب الوطني يفرض علينا أن نغير ما بأنفسنا، فنرفض الاستسلام للأمر الواقع باسم واقعية مغشوشة زادت اختلال الموازين تفاقما، و أن نعيد بناء ما تهمش من تنظيمات المجتمع المدني، و أن نبعث تنظيمات جديدة تنبع من إرادة المواطنين و تتحرك بدون وصاية، فتكون فضاءات رحبة لحياة سياسية وجمعياتية ونقابية نشيطة تقطع مع الرداءة والانتهازية، وتفسح المجال للحوار الحر والرصين وللعمل الجاد من أجل التغيير الديمقراطي الحقيقي.
إنّ التكتل الديمقراطي من أجل العمل و الحريات ومند تأسيسه لم يترك فرصة دون أن ينبه إلى المخاطر و يدعو إلى إصلاح الأمور و لعل البيان الصادر في أكتوبر 1999 بمناسبة الانتخابات التشريعية و الرئاسية يلخص مقترحاتنا حيث قلنا: “إن مناعة تونس و مصير شعبنا مرتبطان بقدرة كل تونسي و تونسية على المبادرة والابتكار وهو ما لا يتحقق في غياب الحريات الأساسية وفي مقدمتها حرية التعبير والتنظم.”
إنّ الخروج من المأزق الراهن الذي أضرّ بتونس وهدّد مصالحها ومسّ سمعتها يتطَلب إجراءات جريئة وعاجلة، في مقدمتها:

1- تنقية المناخ السياسي بإطلاق سراح كافة المساجين السياسيين و إعلان عفو تشريعي عام.

2-ضمان حرية الإعلام والتنظم والتعجيل بمراجعة التشريعات بشكل يرفع نهائيا القيود التي تكَبل الحريات الأساسية.

3-فصل أجهزة الدولة عن جهاز الحزب الحاكم و ذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات في مقدمتها فصل منصب رئيس الدولة عن مسؤولية الحزب الحاكم.

4-تنظيم انتخابات حرة و نزيهة تحت إشراف لجنة وطنية محايدة ينبثق عنها مجلس يتولى سن دستور جديد يضمن الحريات الأساسية، و يفصل بوضوح تام بين السلطات، و يجسّم التوازن بينها، ويعتمد قواعد تسيير المجتمع الحديث و احترام حقوق الإنسان.
إنّ أيّ انتخابات واستفتاءات مقبلة، في غياب هدا التغيير الحقيقي، ستكرس من جديد الاستخفاف بإرادة شعبنا و ذكائه وبطموحات مجتمعنا وقدراته، كما ستكون فرصة أخرى مهدورة، على حساب المصلحة الوطنية، من شأنها تعميق الهوة أكثر فأكثر بيننا وبين المجتمعات التي سجلت و تسجل في كل مناسبة تقدما على درب التطور السياسي.
التكتل وإحياء المشروع المغاربي
إنّ المشروع المغاربي الذي أطلق شرارته مؤتمر طنجة في 26-1958 لا يزال يراوح مكانه. وحتّى ندرك فداحة الفشل الذي مني به هذا المشروع، يكفي أن نتذكّر أنّه في السّنة نفسها أنشأت اتّفاقيّة روما السّوق الأوروبية المشتركة. و إنّ الأسباب التّي غالبا ما تقدّم لتفسير هذا الفشل – مثل تنافر الأنظمة السّياسيّة و النّزاعات الحدوديّة و تباين الإستراتيجيّات الاقتصادية… – لا يمكن أن تكون الأسباب الوحيدة. إن السّبب الرّئيسي لهذا الفشل يتمثّل في أن مسيرة البناء المغاربي قد صادرتها غداة الاستقلال أنظمة حريصة قبل أيّ شيء آخر، بل حريصة حصرا، على بناء الدّولة الوطنيّة، وخلق نظام إنتاج مدمج دون أيّ تشاور أو تنسيق فيما بينها، بل الأدهى من ذلك أن هذا البناء تم في ظلّ تهميش هذه الأنظمة للمجتمعات المدنيّة في كل دولة.
إن معاهدة مرّاكش في 17-2-1989 التي أنشأت رسميّا اتحاد دول المغرب العربي قد أيقظت أملا عابرا. إلاّ أنّه رغم الالتزامات التي قطعها رؤساء الدّول على أنفسهم، فإنّه لم يسجّل أيّ إنجاز معتبر سواء في مجال حريّة التّنقّل و المبادلات أو التّشاور أو التّنسيق على صعيد العلاقات الدّوليّة أو التّنسيق فيما بين مخطّطات التّنمية…الخ بل على العكس من ذلك، فقد شاهدنا طيلة السنوات الخمس عشرة المنقضية احتدام الوطنيّات القطرية متمثّلا في جوّ من التّنافس الرّخيص، فقد أمضت كلّ دولة على حدة اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبّي.
و اليوم فإنّنا بعد حوالي نصف قرن من ندوة طنجة وحوالي 16 سنة من معاهدة مرّاكش لا يسعنا إلاّ أن نقرّ بأن أسباب الفشل الذّي أصاب المشروع المغاربي لا تزال هي نفسها حتّى و لو كانت السّياسة التّصحيحيّة التّي طبّقت في الدّول الثلاث – تونس و المغرب و الجزائر – تحت ضغط العولمة سياسات تخضع لنفس المنطق أو تكاد. إن الاقتصاديات المغاربية تعاني نفس الأمراض : تبعيّة للخارج وتفاقم الاستقطاب وضعف المبادلات البينيّة، والمجتمعات المدنيّة مقصاة وإن بدرجات متفاوتة، وتؤطّرها قوالب تنكر الحريّات وحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة التّي هي كلها ضحيّة السّياسات القمعيّة التي تطبّقها قوّات بوليسيّة متضخّمة ومؤسّسات وهميّة ومنظّمات نقابيّة ومهنيّة متشيّعة وأحزاب تابعة واحتكار للفضاءات العموميّة والإعلاميّة.
إنّ التّكتّل الدّيمقراطي من أجل العمل والحريّات مقتنع بأنّ المغرب العربي لم يبق مجرد مشروع نحلم بتحقيقه وإنّما أصبح ضرورة للحفاظ على البقاء. وإنّ تضافر المسارات الثّلاثة :
الدّيمقراطيّة و التّنمية و بناء هذا المشروع ضروري إذا كنّا نريد أن نكون على موعد مع التّاريخ.
و لايمكن لأيّ مشروع مغاربي أن يرى النّور ما دام كلكل التسلّط يشلّ أيّ مشاركة فعّالة للمواطنين المغاربيّين من خلال تنظيمات ممثّلة ديمقراطيّة.
إن النّضال من أجل الدّيمقراطيّة و التّنمية يسير في خطّ مواز مع الالتزام بالبناء المغاربي.
و هاتان المهمّتان تتكاملان و تعزز إحداهما الأخرى.
و في سياق العولمة و العلاقات الأوربيّة المتوسّطيّة الجديدة و اتّفاقات الشّراكة مع الإتّحاد الأوربّي يتحتّم إعادة النّظر في التّكامل المغاربي خارج أيّة مقاربة اقتصادويّة و ردّ الاعتبار لمنطق الشّراكة و التّنمية المشتركة.
إنّ الإستراتيجيّة التي تشرك المجتمعات المدنيّة و تؤكّد دورها على حساب هيمنة الدّول هي وحدها الكفيلة بإنجاز قفزة حقيقيّة إلى الأمام.
و إنّ تقاعس الأنظمة و عجزها يخوّلان لنا التّوجّه بدعوة إلى سائر مكوّنات المجتمع في البلدان المغاربيّة من أجل تنظيم “تكتّل مدني مغاربي” يتولّى رفع هذه الرهانات و تجسيم هذه الطّموحات التي تنشدها شعوبنا.

التّكتّل و علاقة السّياسة بالدّين
لقد عرفت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة منذ القدم، تيّارات دينيّة حرصت على فرض رؤاها الخاصّة للإسلام و مزّقت بالتالي تلك المجتمعات. والواقع أنّ أغلب المذاهب الدّينيّة تقدّم للقرآن والسّنة قراءات جزئيّة ومتحيّزة  بالنظر إلى أنّه من المستحيل تفسير المقدّس تفسيرا موحّدا. على أن للإسلام  ثوابت و أهداف تحريريّة هي الّتي ينبغي السعي إلى بلوغها .

إنّ الإسلام  دين حريص على محاربة الشرّ من أجل تحقيق الخير. وهو يعمل على أن يقود الناس سلميّا وطوعا، إلى السعادة في الدنيا والآخرة.  ونحن نرى أنّ الإسلام يتضمّن مبادئ العدل و الحرّية و المساواة و التسامح، ويعتمد الإقناع والتّشاور بين الأفراد والجماعات.
إنّ الاجتهاد الّذي هو ضروري لإعداد تشريع متدرّج ومتحرّك باستمرار بهدف التكيّف مع تغيّر المجتمعات والعصور، يعدّ سمة رئيسيّة لديننا الحنيف، خاصة و أنّ العقيدة والتشريع الإسلامييْن قد عرفا هذا الاجتهاد وأثّر فيهما أثناء حياة الرّسول نفسه. وانّ رفض روح الاجتهاد و قصره على فترة النبوّة هو إيقاف  للمدّ التحرّري والتقدّمي للإسلام وقضاء على المجتمع الإسلامي بالتخلّف والانحطاط الحتميّيْن.
و في هذه الحقبة الّتي سجّلت فيها الشعوب الإسلاميّة، مع الأسف، ألوانا من التخلّف في كلّ الميادين فانّ الاجتهاد، بالنّسبة إلينا، يعني التكيّف الضروري مع الواقع المتغيّر لعصرنا الّذي يشهد – بفضل الثورات الثقافيّة والعلميّة والتكنولوجيّة – تطوّرات متسارعة دون أن يضطرّنا ذلك إلى إنكار هويّتنا العربيّة الإسلاميّة الّتي نراها ديناميّة داخليّة تقتضي تجديدا متواصلا لمجتمعنا واستيعابا للإسهامات و التحوّلات الإنسانيّة الدّاعية غلى رفعة الإنسان و تقدّمه و ازدهاره.
إنّ الإسلام، من حيث هو معتقد، حقّ مشروع لكلّ فرد، والمؤمن هو على صلة مباشرة مع خالقه، إذ لا رهبانيّة في الإسلام. أمّا  تدبير السياسة و التفاعل مع محيطنا ومسألة الحكم فهي من مشمولات كلّ المواطنين الّذين يقرّرون شؤونهم طبقا لمصالحهم وللضغوط والملابسات الآنية الّتي يواجهونها .
و خلال قرون طويلة، لم يسمح السلوك الرّّجعي لدى غالبيّة “العلماء” الّذين شرّعوا لاستبداد الحكّام وتسلّطهم – وهو ما مثّل مصدر الانحطاط الفكري والاقتصادي والعلمي – للمجتمعات الإسلاميّة بالاستفادة من الثورات الكبرى الّتي عرفها العالم منذ أكثر من قرنين و الّتي تعدّ اليوم تراثا للإنسانيّة قاطبة.
و هكذا وجدت الشعوب الإسلاميّة نفسها أمام تحدّيات  تنمية سريعة حتّى تتدارك تأخّرها و تسلم من التبعيّة والتهميش. وبإمكان هذه الشعوب أن ترفع هذه التحدّيات بفضل تراثها الحضاري العربي الإسلامي الثّري الّذي مثّل، في الماضي، تيّارا فكريّا تقدّميّا للإنسانيّة قاطبة، والّذي هو اليوم، في حاجة إلى استيعاب القيم الجديدة في الحضارة المعاصرة.
و نحن اليوم مدعوّون إلى أن نتجنّد لاستيعاب التغييرات الضروريّة لضمان تنميتنا وإنجازها.

إنّ التكتّل الديمقراطي من أجل العمل و الحرّيات لا يرى أيّ تناقض بين الإسلام والقيم الحداثيّة. لذلك فنحن نعلن تبنّينا، لا قولا فقط وإنّما فعلا أيضا، لهذه القيم الّتي هي من مبادئ دستورنا، وإن كان حكّامنا منذ الاستقلال – مع الأسف – قد خرقوها. ونحن هنا نلخص هذه القيم والمبادئ:
أ- المساواة بين كلّ المواطنين رجالا ونساء ودون تمييز بسبب الأصل أو الّلون أو الدّين.
ب- الديمقراطيّة الّتي تقتضي سيادة الشعب وحقّه في سنّ القوانين،في كلّ الميادين، عبر ممثّليه المنتخبين بالاقتراع العام المباشر في نطاق انتخابات حرّة و شفاّفة، والفصل بين السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة وحرية الرأي والتعبير. والتداول على السلطة وحرّية تأسيس الأحزاب السياسيّة والجمعيّات الّتي لا تتبنّى العنف و الدكتاتوريّة، و حرّية الرأي والصحافة ، و باختصار استقلال المجتمع المدني إزاء السلطة السياسيّة.
ج- ضمان الحرّيات الأساسيّة وحمايتها: الحرّية الفرديّة و حرّية الرأي و المعتقد، احترام حقوق الإنسان واحترام حقوق الأقليات، منح الحرّيات الثقافيّة و الاجتماعية: الحقّ في الصحّة و السكن و مجانيّة التعليم…
إنّنا نرفض أيّ قراءة ماضويّة للإسلام الّذي هو دين الغالبيّة العظمى من شعبنا. ونحن نعتقد أنّ الإسلام مندرج في مسيرة التاريخ . و حتّى يبقى صالحا لكل زمان و مكان، ينبغي له أن يتكيّف مع التحوّلات الضروريّة. والإسلام يجب أن لا يوظف من  أي فرد أو أي تيّار سياسي يظن أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة و يحتكر الفضاء الديني لأغراض سياسيّة، بحثّ المواطنين على الخضوع للاستبداد، أو باستعمال فتيل الجدل والمهاترات والمشاحنات الّتي عفا عليها الزمن.
إنّنا نرفض مفهوم الدولة الدينيّة (التيوقراطيّة) لما يترتّب عليها من تغييب السياسي، ونفي لقيم الحداثة، وقضاء على مكاسبنا الاجتماعية  في ميادين عديدة مثل تحرير المرأة و النظام التربوي و القضائي …الخ، و رفض للديمقراطيّة و سيادة الشعب، وإلغاء للفصل بين السلطات، أو قمع لحريّة المعتقد والرأي والتعْبير والصحافة، ومنع للفنون (المسرح،السينما، الموسيقى، النحت..)

خاتمة
إنّ تونس لتقف اليوم، ونحن في مطلع القرن الحادي و العشرين، في مفترق الطرق بين شعوب العالم تدفعها من ناحية طموحات شعبها ونضالات قواها الحيّة إلى مزيد العمل والتضحيات من أجل الانخراط سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وبشكل فعّال لايحتمل التراجع في صلب حركيّة الشعوب والأمم المتحرّرة وتشدّها إلى الوراء من ناحية ثانية قوى الرّجعية الّتي اتّخذت من ثقافة الإجماع المفروض أسلوبا وحيدا لتسيير شؤون  البلاد  من الحزب الحاكم المهيمن وسيلة للاستفراد بكلّ مجالات الحياة العامّة بها.
إنّ أي خطّة اقتصاديّة لا يضمن لها النجاح إن هي لم ترتكز على الديمقراطيّة  التعدّدية الّتي تضمن لكلّ الأطراف المنتجة، شغّالين وأعرافا، المشاركة الفعليّة عبر تنظيمات ديمقراطيّة مستقلّة وممثلة في نحت الاختيارات والتفاوض بجديّة وندية حول المعادلة التّي تضمن توزيعا عادلا للمكاسب بما ينصف الشغّالين. فلا بدّ من اعتماد سياسة اقتصاديّة تضع هيكلة الاقتصاد الضروريّة في خدمة المشروع التنموي، وتربط بصفة حركيّة بين النموّ والعدالة الاجتماعية .
إن تونس التي نعتز بما يحفل به تاريخها من إنجازات ومبادرات إصلاحية رائدة عندما كانت في مقدمة الدول التي ألغت الرق وسنّت دستورا أو عندما شهدت انبعاث أول نقابة عمالية وأوّل رابطة لحقوق الإنسان وأحد الفروع الأوائل لمنظمة العفو الدولية في إفريقيا وفي العالم العربي، وعندما بادرت بأكثر الإصلاحات جرأة في العالم العربي والإسلامي من أجل تحرير المرأة، لها اليوم من الكفاءات البشرية ومن الطاقات النضالية ما يؤهلها للقيام مجددا بدور رائد في إصلاح النظام السياسي وبناء مجتمع ديمقراطي حقيقي.
إنّنا ندعو اليوم القوى الحية بالبلاد إلى استرجاع الكلمة والمساهمة في حوار حر ومنظم حول القضايا المصيرية و العمل المشترك من أجل إحياء جذوة الفكر الجمهوري وإرساء نظام ديمقراطي ينبني على مؤسسات ممثلة و يوفر شروط ممارسة مواطنة حقيقية. إن التاريخ الحديث أبرز إن الديمقراطية ليست فقط حقا نصرّ على اكتسابه و نناضل من أجله، بل هي بكل تأكيد الأداة الضرورية التي لا محيد عنها إذا أردنا تحقيق المشروع التنموي الشامل و العادل وانصهار شعبنا في حركة التطور البشري نحو المزيد من التقدم والحرية.

إعداد : اللجنة السياسية للحزب.