بقلم حامد الماطري

يا ربّ هذه الأمّة، هزّ علينا هالغمّة

لا أدري إن كان الجميع يتذكّر هذا “الدّعاء” الذي أطلق في رمضان منذ 3 سنوات، في اخراج مسرحيّ كبير، عندما كانت الجحافل مجتمعة في ساحة باردو ايّام “اعتصام الرّحيل”…
وقتها، تجمّعت الجماهير المشحونة لتردّد شعارات “قيادات الرّحيل” التي استغلّت أيّما استغلال اغتيال الشّهيد البراهمي و عمليّة “هنشير التّلّة” لتصوّر حكم التّرويكا كمصيبة حلّت بالبلاد، و لتنادي بالعصيان و لتؤزّم الأوضاع و تدفع بالبلاد إلى حالة من الإنسداد و الصّدام التي أخافت التونسيّين و أقامت شبح النّزاع الأهليّ قبالهم.

الجدير بالانتباه هو أنّ الصّورة وقت اعتصام الرّحيل كانت قد جمعت من قدّموا أنفسهم آنذاك على أنّهم “المخلّصون” مثل خميّس كسيلة و القطّي و محسن مرزوق و العكرمي و رضا بلحاج و بلحاج علي، و غيرهم ممّن أصبح بعد انتخابات 2014 في قلب منظومة الحكم، و في قلب الأزمة الموحلة و المقرفة التي يتخبّط فيها الحزب الحاكم -و تغرق معه بلادنا- منذ أن وصل إلى السّلطة في كلّ من قرطاج و القصبة و باردو.

لا شكّ في أن فترة حكم التّرويكا كانت ثريّة بالأخطاء و الهفوات، و لا يسعنا المجال هنا لتعدادها. و لكن يمكن لكلّ من ينظر إلى الوراء أن يقوم بشيء من المراجعات، أن يبدأ في فرز الحقّ من الباطل، و أن يتفكّر في هذه المراحل و في ما تأتّى منها، و صولاً إلى ما بلغناه اليوم. و يبدو أن من إدّعى و روّج أنّنا في “غمّة” منذ سنوات قليلة، قام بالفعل بايصال البلاد إلى حالة من الغمّ المتجهّم على وجوه التونسيّين اليوم.

أمام التّجاهل الإعلامي المتواطئ و المفضوح لحالة القلق التي تخيّم على الشّارع التّونسي اليوم، و التي جعلتنا نشتاق “الوعي الصّحافي و المدنيّ” الذي هرسلونا به فترة حكم التّرويكا، إرتأيت أن أقوم –على المستوى الشّخصيّ- بنوع من استطلاع الآراء من حولي، و صدمت لكمّية الاحباط و القلق التي لقيتها لدى الجميع، باختلاف أعمارهم و مستوياتهم العلميّة و الاجتماعيّة.
هي حالة من “الغمّ” الجماعيّ، و الخوف من مستقبل غير مأمون. ربّما يوافقني الكثيرون في كون الفترة الحاليّة من بين أحلك الفترات و أكثرها اختلالاً في تاريخ تونس الحديث، اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً أو أمنيّاً أو سياسيّاً.
أكثر ما شد انتباهي هو إدراك التّونسيّ الجليّ بأن بلادنا اليوم في وضعيّة سقوط حرّ و أن أزمة اليوم هي أعظم و أكثر وضوحاً من كل ما سبق، بأنّ الأمور تسوء على كلّ الأصعدة، بسرعة، و بأن الأسوأ قادم.
أمّا الشّباب، فهو يحمل نظرة أشدّ قتامة و قطيعة أكثر راديكاليّة مع المنظومة السّياسيّة و الاقتصاديّة، و لم أرى أبداً مثل هذا الإقبال (و التّشجيع من الأولياء) على الدّراسة في الخارج و الهجرة.

الرؤيا ضبابية إلى حدود مخيفة، و النّاس يتراوحون بين من يطبق على أذنيه و هو يتوقّع دويّ الانفجار في أيّ لحظة، أو من يبحث عن أي فرصة للقفز من المركب قبل أن يغرق، أو من يدرك فداحة الوضع و لكنّه يعتقد بأن معجزة ستحدث و ستنقذ البلاد في آخر لحظة.

حتّى مبادرة “الباجي” و حكومته الوطنيّة، يبدو أنّها تقابل بشيء من اللامبالاة و انعدام الثّقة، فغالبيّة النّاس لا يرون فيها لأكثر من اعادة خلط و توزيع للأوراق، و معها اعادة توزيع للمناصب و المكاسب.
شخصيّاً، رأيت منذ البداية أنّها مبادرة متسرّعة و غير مسؤولة، هدفها إنقاذ حزب نداء تونس أكثر من إنقاذ البلاد. مثل هذه المبادرات لا تطلق للعلن إلا بعد أن يقع إنضاجها و الإتّفاق على الخطوط العريضة لها، سواء من حيث البرامج أو من حيث التّركيبة، و لا ترمى هكذا من دون معالم لتسبّب تشويشاً و فترة جديدة من انعدام التّوازن نحن حتماً في أمسّ الحاجة لتجنّبهما، و يعلم الله وحده كم ستطول و ما ستتفتّق عنه هذه المرّة.
ربّما يتناسى البعض أن آخر تحوير وزاري واسع كان قد وقع منذ أشهر قليلة (فيفري الماضي)، بل أنّ هناك وزراء جدد أستقدموا، و وزارات لم يمض على إستحداثها إلا بضعة أشهر و لم يقع المصادقة على شكل هياكلها إلا منذ أيّام، و من البديهي أنّ تغييرهم اليوم لا يدخل تحت باب آخر غير الفوضى و “قلّة الجدّيّة”.

الباجي لا يزال يعيش في السّتّينات من القرن الماضي، و هو يعتقد أن مشاكل اليوم يمكن أن تحلّ عبر استنساخ وضعيّات و حلول لمشاكل مماثلة عرفتها دولة الاستقلال منذ خمسين سنة…
الرجل –وإن كنّا لا نشكّك في دهائه و طول تجربته- و لكن من الواضح أنّه حبيس الماضي، و أنّه تنقصه الحيلة -كما الطّاقة- للتّعامل مع التحدّيات الاستثنائيّة التي تعيشها البلاد، زد على ذلك أنّه ليس في أحسن أحواله، بعد ما انفضّ من حوله جنرالاته و انقلبوا عليه تدريجيّاً مع كل “عركة ندائيّة”.

اختلفت الرّدود من مبادرة “حكومة الوحدة”، باختلاف القراءات التي فهمت بها. و لكنّ المشكلة ليست في دستوريّة التّمشّي أو في شكله، أو في مدى توسيع الإئتلاف و استعداد الرّباعي الحاكم للتنازل عن “حصصه” في الحكم، العلّة الحقيقيّة هي في فحوى المبادرة و في أبعادها… الرجل قال كل شيء، و رمى باللائمة –و المسؤوليّة- على الجميع و لم يعترف بالحقيقة المجرّدة المطلقة: هي أنّه كذب على التّونسيّين طويلاً و كثيراً، و أنّ حبل كذبه، هو و من والاه، كان أقصر ممّا اعتقد الجميع، و هو اليوم قد بلغ آخره.. أنّه وعد بلا حساب، هو يعرف أنّه غير قادر على تحقيق “عهوده” التي أقسم عليها، و اليوم فتحنا “الصّرّة” و وجدنا “خيطاً”..

يبدو أن التّونسيّ أصبح أكثر وعياً بحساسيّة الوضع و خطورته، كذلك أصبح -أخيراً- أكثر وعياً بافلاس الطّبقة السّياسيّة عن بكرة أبيها، بيمينها و يسارها، قديمها و جديدها،. و الجميع يرتقب انقضاء الصّيف و وصول الخريف بمطبّاته…
ممّا لا شكّ فيه أن الأزمة الاقتصاديّة هي بالأساس عالميّة، و لكنّ استشراء الفساد، و توقّف الانتاج، و تضخّم المصاريف، و حالة التّسيّب و الفوضى العامّة، إلى جانب تقاعس الحكومات المتعاقبة عن الانطلاق في أيّ من الإصلاحات الموعودة، كلّ هذا جعل من الأزمة في تونس تأخذ مقاييساً غير مسبوقة.
و أن تتشكّل الحكومة في أسبوع أو في أشهر، أن تضمّ أربعة أحزاب أو أربعين حزباً، فهذا لن يحدث فرقاً كبيراً ما دامت العقليّات و الآليّات و الحسابات هي ذاتها لم تتغيّر… ينظر الشّارع اليوم الى أهل السّياسة كمجموعة من الانتهازيين و الفاسدين، بل أنّه لم يعد ينتظر شيئاً من الأحزاب أو الزّعامات و فقد الثّقة فيهم و في أيّ اصلاح قد يقدمون عليه.
مقابل ذلك، لا يزال الغليان الاجتماعي يتّقد في الجهات و الأحياء الفقيرة، و الطّبقات الوسطى، خصوصاً مع تردّي الوضع الاقتصادي و بلوغ البلاد حالة من الوهن الحقيقي، و تعطّل أغلب الاصلاحات الاقتصاديّة الكبرى تحت ضغط الأوليغارشيا التي أصبحت تدافع عن مصالحها مباشرة من داخل أروقة مجلس نوّاب الشعب.

الأزمة الحقيقية اليوم ليست أزمة زعامات أو أشخاص، كما هي أبعد ما تكون عن الصّراعات الوهميّة كتلك التّرّهات التي أفسدت الانتخابات السّابقة، بل هي أصلاً في غياب البدائل السّياسيّة الفعليّة، و القادرة على أن يؤمن بها المواطن التّونسي و يضع فيها ثقته. و من دون هذا البديل ستحلّ فوضى اليأس و الفراغ، و ما الارهاب، و ما انفلات الاحتجاجات الاجتماعيّة و ضعف مفهوم الدّولة إلّا تمظهر لهذا الفراغ.. فراغ يدركه المواطن و يزيد من قلقه، أكثر من أهل السّياسة و الغارقين في حساباتهم السّياسويّة.

روما تحترق… و لا يهمّ من أضرم النّار بقدر ما يهمّ ما سنفعله جميعاً حيال ذلك.
هم يزدهرون بتجاهلنا، يضعون الاستراتيجيات مرتكزين على سلبيّتنا و انقسامنا، و يعوّلون كثيراً على “جهلنا الاختياري”. أن نبقى مكتوفي الأيدي، ننتظر الانفجار أو ننتظر المعجزة، فهذا يعني أنّنا نتواطأ مع من يخرّبون البلاد و يجهزون عليها.
لم أكن يوماً متشائماً و لكنّ الواقعيّة تملي علينا أن نتمعّن مليّاً في مآل الأمور في بلادنا. كذلك يصبح التّفاؤل غبيّاً عندما يكون محمولاً على إنكار الواقع. و أذا لم يقف الجميع اليوم –سويّاً- وقفة صادقة و جريئة لتقويم الوضع، بعيداً عن كلّ الحسابات الضّيّقة و الفئويّة و القصيرة النّظر، فسندفع –جميعاً- الثّمن غالياً، و غالياً جدّاً، و سنبقى ندفعه على امتداد عقود طويلة.