سنة 2012، تعهّد القضاء بقضيّة بتروفاك، إذ ثبت حصول أحد الطّرابلسيّة على رشوة بعدّة مليارات مقابل تيسير حصول الشركة البريطانية على امتيازات في حقل الشرقي في قرقنة. أفضت القضيّة إلى الحكم على المنصف الطرابلسي –لوحدهǃ- بالارتشاء… المنصف الطرابلسي لم يكن له أي صفة في الدّولة التونسيّة، و لكنّ القضيّة ختمت و كأنّ لم يكن له شركاء في المؤسّسات الحكوميّة ممّن سهّل و مكّن من اتمام الصّفقة (سواء كان ذلك تواطؤاً أو إذعاناً للضّغوط)… ببساطة، و بعيداً عن أيّ شعاراتيّة، لو كانت وقعت محاسبة حقيقيّة في قطاع النّفط، أو على الأقلّ حدّ أدنى من تحديد المسؤوليّات، لما تواصل الخور في قطاع النّفط بما هو عليه حتّى اليوم، و لما تواصل مسلسل الإهدار و السّمسرة، و التّهاون في الثّروات الوطنيّة…

لو وقعت محاسبة حقيقيّة في الدّيوانة، لما تواصل مسلسل التّهريب، و لما أصبح لدينا اليوم مئات من الطّرابلسيّة، و لما استبيحت موانئنا و حدودنا كما أصبحت عليه الآن، وصولاً إلى الوضع المفزع الذي بلغناه من تجارة موازية و تهريب للسلاح و المخدّرات و الآثار، و كلّ عزيز و غالي…

لو عرفت بلادنا عمليّة تدقيق في المناظرات..

لو أعيد النظر في الطريقة التي أسندت بها العديد من الوظائف، أو على الأقل محاسبة أصحابها و الضّرب على الأيادي التي لعبت بمصائر العباد و بأحلامهم، لتوقّفت مظاهر المحسوبيّة في التشغيل و لاستعاد الشباب الأمل و الثقة في بلادهم و في مؤسساتهم. لو وقعت محاسبة –و لو جزئيّة- في البلديّات، لما تواصل مسلسل الفساد، و لما انزاد عليه مشهد الفوضى العارمة…

لما تحوّلت شوارعنا إلى مزابل بسقف مفتوح، و لما اختفى الرّصيف تحت وطأة الانتصاب الفوضوي و احتلال المحلّات للمجال العمومي، و لما تشوّهت المدن، و لما أصبح الأعوان يقبضون الإتاوات من أصحاب المحلّات أو الحظائر، بلا حرج أو خوف..

لو شرعنا في التّدقيق في حسابات البنوك و علاقاتها و معاملاتها لكان بالإمكان –على الأقلّ- أن ننقذ شيئاً من البنوك العموميّة الواقعة تحت شبخ الافلاس، أو على الأقل أن نوقف النّزيف المتواصل.

كنّا على الأقلّ سنفهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه و أن نحول دون تكرار الأخطاء ذاتها. من بين كلّ استحقاقات الثورة، لا شكّ أن المحاسبة و محاربة الفساد هي من أكثرها تأخّراً و إحباطاً…

في تونس، استشرى حجم الفساد في السّنوات الأخيرة لبن علي مع تغوّل المافيات، فبلغ مستويات غير معهودة. و بعد الثورة، و بالأخصّ مع التّخلّف عن المحاسبة، تعافت منظومة الفساد بسرعة، و خرج الفاسدون بسرعة من أوكارهم بجشع أكبر و فوضى أكبر، و صار لدينا بدل المافيا مافيات، و مئات البارونات، و استغلّوا ضعف الدّولة و كثيراً ما استعملوا لصالحهم النعرات الجهوية و القطاعية و عدداً من النقابات الفاسدة لتمرير ما يشاؤون و ليقطعوا الطّريق على مساعي الاصلاح إذا وجدت… عندنا شخصيّات مشهود لها بالفساد، تتنقّل في تبجّح و وقاحة مزعجة. كذلك لنا مسؤولون في مؤسسات عمومية، ممّن ذكر بالإسم في تقارير رسميّة حول الفساد، و هم لا يزالون يزاولون أعمالهم و كأن شيئاً لم يكن، و كأنّ منظومة الفساد تصرّ على أن تثبت للجميع أنّها أقوى من الدّولة و أنّها أصبحت رقماً لا مفرّ من التّعامل معه…

في تونس اليوم، يتبجّح العون الفاسد من دون حياء بأنّه “لا يلمس قرشاً من شهريّته”، و أنّه يتحصّل على أضعاف أضعافها من الارتشاء، و تجد العون، أو رئيس الشعبة السّابق، أو موظف القباضة، أو غيرهم، ممن لا تتجاوز شهريته الثمانمئة دينار، يملك فيلا و حديقة، و يتعشى كل ليلة في أفخم المطاعم و يرسل ابنه للدراسة في الخارج، و لا يجد من يسأله أن من أين لك هذا؟ بل بالعكس، بلادنا اليوم تريد أن تسنّ القوانين لاستيعاب من ثبتت عليهم تهم الفساد و الاختلاس و الارتشاء أو التربّح غير المشروعǃ أن تقرّ الدّولة بعجزها عن محاربة الفساد أو عن تطهير هياكلها من جحافل الفاسدين، فهذا أمر بديهيّ.. لكن أن نمرّ إلى شرعنة الفساد و تقنينه، فهذا أمر خطير جدّاً.

انطلق مجلس نواب الشعب منذ أيام في نقاش قانون المصالحة “سيّء الذّكر”، أو ما قدّم على أنّه آخر مراجعات النّصّ بعد أن رفضه الجميع و تبرّأ منه أقرب المقرّبين إليه، و ثبت عدم دستوريّته و تناقضه مع ابجديات القانون الدّولي و المعاهدات التي صادقت عليها تونس في محاربة الفساد… عجيب أمر هذه المنظومة الحاكمة… إصرارها على طرح هذه المسألة، بمسمّيات عدّة و من مداخل مختلفة، يزيد من الشّكوك حول شيء من تداخل في المصالح، و محاولات مباشرة، و مفضوحة، لتبييض فاعلين سياسيين –سواء في قرطاج أو في باردو- أو مموّليهم، أو الإصرار على حماية رجالاتهم داخل الدّولة أو المؤسّسات الماليّة و الرّقابيّة و التّقريريّة. رمزيّة ما يسمّى “قانون المصالحة” تتخطّى مسألة العفو على الفاسدين، على اعتبار أنها تضع مؤيّدات قانونيّة و أخلاقيّة للفساد –ما سبق منه و ما سيلحق- و أنّها تتعارض مع القيم المجتمعيّة الأساسيّة، و تهدّد باستبدالها بقيم مسقطة و ضارّة، عمادها المادّيّة، و الانتهازيّة، و الافلات من العقاب. مثل هذا القانون سيولد من رحمه جيل من اللّصوص، ممّن سيوقنوا بأنّ للفساد في تونس رجال و منظومات سياسيّة كاملة تحميه، و أن القانون، كما المجتمع، على استعداد لتقبّل الاختلاس و النّهب و الرّشوة و قبول أصحابهم. كذلك الخطر في عرض “قانون المصالحة” على النّقاش، و الاصرار على الرّجوع عليه من وقت لآخر، يكمن في إعطاءه لنوع من لتّغطية المعنويّة على هذه الجرائم، و تنسيبها و التّطبيع معها، و قبولها ضمنيّاً و عمليّاً، حتى و إن لم يقع إقرار القانون و اعتماده. الاشكال لا ينحصر في “رؤوس الأموال”، بل يمتدّ بالخصوص إلى “الموظّفين” الفاسدين (أي من ثبت تورّطهم في عمليّات فاسدة و تربّح غير مشروع) ممّن يعمل “قانون المصالحة” في نسختيه على تبييضهم و تبرئتهم، و اهدائهم “غشاء بكارة” جديد، بصبغة “قانونيّة”. قيل كلّ ما قيل في هذا القانون و في سقوطه أخلاقيّاً و دستوريّاً و اقتصاديّاً. لذا فإنني أعتبر أنّه، و مع كلّ مرّة يذكر فيها اسم هذا القانون من جديد أو يحاولون تمريره، هي صفعة جديدة يتلقّاها كل موظّف شريف يعمل في هذه الدّولة، صفعة يتلقّاها كلّ من جاهد نفسه و حافظ على نظافة يده بالرّغم من فقره و قلّة حيلته، و في وقت كان يرى زملاؤه بقربه يملؤون جيوبهم من دمّ الشعب، فلا يملك إلا أن يتوعّدهم بيوم الحساب… الخوض من جديد في هذا القانون هو إمعان في الانتهازيّة و ابتزاز الدّولة التونسيّة في أزمتها الخانقة، كما هو أيضاً امعان في استبلاه هذا الشعب، علاوة على كونه إهانة في حقّ كلّ ضمير حيّ، و دعوة لكلّ “متردّد” أن لا تتردّد في المستقبل في الالتحاق بسوق الفساد و المحسوبيّة.

لو كان التّطبيع مع الفساد و التّغطية على الفاسدين بامكانهما تنشيط الاقتصاد، كما يدّعي بعض من “خبراء المنابر” لكانت نيجيريا و الصّومال أقوى اقتصاديّات العالم… السّؤال بسيط: أين طريق نريد أن نسلك؟ و أي مصير نريد لبلادنا، لتونس؟ هل نريد أن نقترب من دول العالم المتقدّم، و اللاتي تعطي الأولويّة للشفافية في المعاملات و اعلاء القانون، أو أن نختار أن ننحدر إلى مستوى الدّول الفاشلة، تلك التي تصاغ فيها القوانين لمأسسة الفساد، و التّغطية على الفاسدين و حمايتهم؟ شخصيّاً، أعتبر حملة “مانيش مسامح” التي عادت لتتحرّك من جديد –مع اعادة تحرك ملفّ قانون تبييض الفساد- أحد آخر معاقل الثورة و مواقع حيوية الشباب التونسي… الثورة التونسية كما كانت في أوّل أيّامها، شبابيّة و وطنيّة، صادقة و مبدئيّة، متحرّرة من أيّة تموقعات حزبيّة و حسابات سياسويّة، ثورة ملهمة و شجاعة، تدرك أحقّية مطالبها و تؤمن بأهدافها. لذا، لا بدّ من دعم هذه التّحرّكات، بكلّ الوسائل الميدانيّة و الفكريّة و المادّيّة، و أن لا نخذل شباب تونس المرابط. لأننا لا زلنا نؤمن بأن بلادنا تستحقّ –على الأقلّ- غداً أفضل، لا يجب أن نسمح بأن يقع تبييض الفاسدين و “إعادة تأهيلهم”، لا يجب أن نسمح بالمرور من فوق منظومة العدالة الانتقالية و إفراغها من معناها… ليس الأمر “ثورجيّة” أو حقداً دفيناً تجاه الفاسدين، بل حبّاً في تونس و إيماناً بها.. ما من أحد يبتغي ملأ السّجون المكتظّة أساساً، و ليس منّا اليوم من يبحث عن التّشفّي. لكن لا مناص من المصارحة و من تحديد المسؤوليات قبل المضيّ قدماً في الإنقاذ و اصلاح ما يمكن اصلاحه. لمصلحة تونس.. حتى تبقى دولة، و لا تتحوّل إلى مرتع للعصابات، ما يلزمناش نسامحوا!

ماناش_مسامحين#

بقلم حامد الماطري